حوار هادئ حول مفهوم المقاومة الشعبية (٢\٧)

في المقال السابق كنا قد ناقشنا الخطوط العريضة لكيفية بناء المقاومة الشعبية، مشددين علي أن بناء البؤر الاجتماعية والحواضن السياسية هو المدخل الصحيح لهذا الأمر واضيف هنا انه وفي ظل القبضة الامنية التي تشتد يوماً بعد يوم علينا التركيز علي الريف حيث القري والمدن الصغيرة التي تكون القبضة الامنية فيها اخف وامكانات العمل فيها أكبر.

في هذا المقال سأركز على قضية هي تقنياً خارج التسلسل الطبيعي للقضايا المتعلقة بموضوع بناء المقاومة الشعبية ولكن لأهميتها السياسية والأيديولوجية فهي قد صعدت الي رأس القائمة وهي قضية الوعي الطبقي ونبذ النزعات الشعبوية والجهوية. فقد تتوقف الحرب اليوم أو غداً في السودان نتيجة لمفاوضات أو تسويات تبدأ في الغرف المغلقة وتوقع بنودها في الهواء الطلق، ولكنها سوف تندلع مجدداً لان التناقضات الرئيسية التي ادت لاندلاعها لاتزال موجودة فأي تسوية مستقبلية سوف تضمن الاطماع الدولية والإقليمية في السودان كما انها ستحافظ على نفوذ عملاء المحاور بشقيهم المدني والعسكري مما يعني الاحتفاظ بنفس التناقضات ونفس اللاعبين وبالتالي اندلاع الحرب مرة اخري ولو بعد حين.

لكي تتوقف الحرب للأبد في السودان لابد من القضاء على مسببات الحرب ولاعبيها قضاءاً مبرماً وذلك لن يحدث ما لم يسود الوعي الطبقي بين جميع قطاعات الشعب الفقيرة والمسحوقة الذين هم الغالبية الساحقة من هذا الشعب وذلك هو تحدي القوي الثورية اينما وجدت في هذا البلد. فجميع الفقراء اخوة ولا يفرق الفقر بين عربي او عجمي ولا بين ابيض أو اسود فالجميع في الفقر والظلم سواء، ولن يتحرر الفقير من فقره مالم يمد يده الي اخيه في الفقر للعمل سوياً على اقتلاع مسببات الفقر والعوز التي تتفق وتتضامن الطبقات المسيطرة بمختلف سحناتهم والوانهم على فرضها على غالبية الشعب.

من أعظم المخاطر على مشروع التغيير الجذري في بلادنا هو تأثر قسم من القوي المحسوبة على التيار الثوري بالدعاية الشعبوية لقوي الثورة المضادة. ولان اليسار عموماً هو أكثر مبدئية وتطوراً من اليمين في هذه الامور، فمن المهم الاشارة هنا الي ان هذه النزعات وسط قوي اليسار قد اتخذت طابعاً مستترا خلف شعارات تؤدي في نهاية المطاف الي الانحياز لاحد طرفي الحرب وبالتالي فقدان الاتجاه نحو الطريق الثورة المفضي للقضاء المبرم على الحرب ومسبباتها.

يأخذ هذا التأثر اشكال عدة أهمها الاستناد الي الاتهامات الموجهة لفريق التسوية بالانحياز لاحد أطراف الحرب (الدعم السريع) كذريعة للتوهم بأن الجيش هو الطرف الاقرب للقوى الثورية في واحدة من مظاهر التفكير الثوري البدائي ثنائي القطبية التي تفضي الي تناسل الادعاءات بأن الجيش انما هو مؤسسة رسمية بينما الدعم المسلح مجرد ميليشيا أولى بالقتال وغيرها العديد من مقولات الحق التي يراد بها في بعض الاحيان الباطل.

كذلك نجد دعوات الحفاظ علي الدولة السودانية ووحدة التراب الوطني وحماية السكان المحليين من الانتهاكات التي تقوم بها قوات الدعم السريع هي دعوات على الرغم من صحتها من ناحية مبدئية الا انها تشكل واحدة من المداخل القوية للوقوع في حبائل التفكير الشعبوي.

علي الضفة الأخرى نجد الحديث عن دولة 1956م وهيمنة مجموعات سكانية معينة علي الثروة والسلطة علي حساب مجموعات سكانية اخري هي من اقوي المداخل التي تستخدمها قوي الثورة المضادة للتأثير علي المتعلمين والمثقفين عموماً والثوريون منهم بصفة خاصة والتي غالباً ما تكون مصحوبة بدغدغة خفيفة لطموح هذه المجموعات في الحكم وتسنم المناصب، أيضاً نجد الاحتجاجات علي عدم توفر الاهتمام والتغطية الاعلامية الكافية للانتهاكات التي تحدث في مناطق جغرافية معينة بمقارنة بمناطق أخري وهو وضع وأن كان فموجوداً ي كثير من الاحيان الا ان أسبابه لا تفضي الي النتيجة الشعبوية الجهوية التي يسعي اليها مروجو تلك الاحتجاجات.

من المهم هنا الاشارة الي خطورة تلوث اليسار بالنزعات الشعبوية فالحزب النازي في المانيا كان يسمي بالحزب الاشتراكي القومي

إذاً ما العمل؟

لكي ينجح الثوريون وقوي التغيير الجذري في فرض مشروعهم علي الساحة فلابد من وضع مسألة الصراع الطبقي في صدر الاولويات وليتحقق ذلك فهناك واجبان رئيسيان: الاول العودة الي القري والارياف وبناء بؤر السياسة والحواضن الاجتماعية للثورة في كل بقعة من بقاع السودان بلا استثناء والثانية ان يعمل المثقفون الثوريون علي توفير الغطاء السياسي والايدولوجي لهذه البؤر بتوفير الكتابات والشروحات المبسطة لأشكال الاستغلال في كل منطقة من تلك المناطق مع مراعاة الخصوصية في كل منطقة وربط هذه الخصوصية بتعقيدات الواقع السوداني والمنطقة بشكل عام، وذلك حتي يتسنى لنا كثوريين إنزال شعار الوحدة في التنوع علي الارض بصورة عملية كما نحتاج ايضاً الي توفير الدعم المالي والمعنوي لهذه البؤر في كل قرية وبادية .

هذه دعوة للمتخصصين في مجالات الزراعة والتنمية الريفية والبيئة والتغير المناخي والتعدين والبني التحتية لمد جسور التواصل وبناء مجموعات العمل مع رفاقهم الثوريين في مناطق النزوح لتنظيم الجماهير في مختلف القري والاصقاع وعكس وتحليل انماط الاستغلال فيها واقتراح الحلول للنهوض بها وتطويرها، هي دعوة للكتابة وارسال الرسائل المبسطة وباللغة العربية عبر الوسائط المختلفة.

قد أن الاوان لجعل النزوح موسم عودة للقواعد وألا يكون العمل على قضايا المجتمعات المحلية حكراً علي المنظمات الطوعية وأن لا تكون المعرفة والحديث عن تلك القضايا حصراً علي المنظمات الدولية، فمن اهم مصادر قوة وهيمنة النظام النيوليبرالي علي عالم اليوم هو معرفته الدقيقة بأوضاع المجتمعات المحلية في تلك الدول الفقيرة، كما ان جهلنا بهذه الاوضاع هو من أهم مصادر ضعفنا، وبالتالي فإن قلب هذه المعادلة لصالح قوي الثورة هو من أهم المداخل لهزيمة مشروعات التسوية والتبعية ونجاح مشروع التغيير الجذري في السودان.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *