من مظاهر انجوة العمل النقابي

كنا قد تحدثنا في مقالات سابقة عن العمل الطوعي في السودان والعديد من دول العالم الأخرى وعن ضرورة التمييز بين العمل الطوعي ذو الطبيعة الجماهيرية والعمل الطوعي غير الجماهيري.

كما تحدثنا ايضاً في مقال اخر عن ظاهرة انجوة العمل السياسي، وشرحنا مصطلح الانجوة باعتباره تبني الحركات الاجتماعية للطابع المؤسسي والبيروقراطي للمنظمات غير الحكومية في تكوينها وطريقة عملها، وحذرنا من الدور السالب الذي لعبته عدد من المنظمات الطوعية في تحويل العمل السياسي في السودان الي نمط من النشاط غير الجماهيري تسيطر علية ثقافة الصالونات ونجوم الورش، ودعونا العقلاء من قادة الاحزاب السياسية الي امعان النظر في هذا النوع من العمل السياسي ودعوناهم الي التأمل في تجربة دول مثل فرنسا واسرائيل والتي تفككت الاحزاب الرئيسية فيها وسادت ظاهرة الاحزاب التي تشبه أكواب الورق الي تستخدم لمرة واحدة، أحزاب تتكون لغرض خوض الانتخابات ثم تتفكك وتذوب حتي دنو أجل الاستحقاق الانتخابي التالي فتتكون أحزاب جديدة أخري. كما تطرقنا الي تجربة دول مثل كينيا وكرواتيا التي تسود فيها سياسية يصعب وصفها بالسياسية، تم فيها استبدال هموم المواطن اليومية بقضايا ترفيه منبتة عن الجماهير مما فتح الباب على مصراعيه امام سيطرة القبلية وكارتيلات الاقتصاد على العمل السياسي في تلك الدول.

أكرر الدعوة في هذا المقال الي قادة العمل السياسي في السودان الي الانتباه لهذا الخطر الذي يتهدد الملعب السياسي الذي نتشاركه جميعا.

هذا المقال هو دعوة للتأمل في ظاهرة أخري وهي انجوة العمل النقابي، وهي ظاهرة لا تقل خطورة عن انجوة العمل السياسي.

المتابع لمسيرة الحركة النقابية العالمية يلحظ بسهولة أن انجوة العمل النقابي قد بدأت قبل انجوة العمل السياسي بسنوات طويلة، فمنذ الانقسام الاول في الاتحاد العالمي للنقابات (WFTU) سنة 1949م وتكوين الاتحاد الدولي للنقابات الحرة (ICFTU) بدأت مظاهر الانجوة في الظهور وذلك بتبني هذا الاتحاد الدعوة لتعدد التكوينات النقابية داخل المهنة أو الصناعة الواحدة والدعوة لوجود أكثر من أتحاد نقابات داخل الدولة الواحدة، وهذه الدعوة ليست دعوة اعتباطية، فالحركة النقابية قد خرجت بعد الحرب العالمية الثانية قوية ومتماسكة بل ونجحت في الوصول الي السلطة في عدد من الدول فسادت داخلها ثلاثة رؤي أو اتجاهات للعمل النقابي:

  1. اتجاه يري في العمل النقابي وسيلة لتحقيق الثورة والاستيلاء علي السلطة وتحقيق المجتمع الاشتراكي. وساد هذه الاتجاه في دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا والصين وعدد كبير من نقابات دول العالم الثالث الصاعدة في كل من افريقيا واسيا.
  2. اتجاه يري في العمل النقابي وسيلة للمشاركة للسلطة كما في حالة الاحزاب العمالية المنتمية الي معسكر الديمقراطية الاجتماعية كما في حالة حزب العمال البريطاني والحزب الاجتماعي الديمقراطي في المانيا وعدد من دول أوروبا الغربية والوسطي.
  3. اتجاه يحصر دور النقابات في مسألة المفاوضة الجماعية مع المخدم لتحقيق أوضاع أفضل للعاملين ولايقبل باي دور لها ابعد من ذلك وهو اتجاه ساد في أمريكا واستراليا وبعض دول أوربا الغربية

عملت قوي الاستعمار الحديث في ذلك الزمن على تفتيت وحدة العمل النقابي وبالتالي إضعاف نفوذها قدرتها للوصول للسلطة سوآءا عن طريق الثورة أو عن طريق الانتخابات وتلك كانت البذور الاولي لانجوة العمل النقابي. وأحيل القارئ هنا الي ورقة أنتوني كرو بعنوان النزاع داخل الاتحاد الدولي للنقابات الحرة خلال عقد الخمسينات: ضد الشيوعية ام ضد ضد الاستعمار (Conflict Within the ICFTU: Anti-Communism and Anti-Colonialism in the 1950s) والموجودة بمجلة المراجعة الدولية للتاريخ الاجتماعي (International Review of Social History). وكذلك يمكن الرجوع لكتاب ضابط وكالة المخابرات المركزية الامريكية السابق فيليب أغي (Philip Agee) بعنوان من داخل الشركة: مذكرات ال CIA (Inside the Company: CIA Diary) الصادر سنة 1975م عن دار (Farrar Straus and Giroux) والذي تحدث فيه صراحة عن دور وكالة المخابرات المركزية الامريكية في تاسيس الاتحاد الدولي للنقابات الحرة (ICFTU) والدور الذي لعبه هذا الاتحاد في ضرب وحدة الحركة النقابية العالمية ومحاربة الشيوعية وما اشبه الليلة بالبارحة.

ولان الصراع هو صراع قديم جديد ومتجدد، ظهرت بعد ثورة ديسمبر مجموعات تنادي بنفس الدعاوي، ولكن هذه المرة عبر غطاء الانجوة الجاذب والتمويل السهل فعملت بصورة محمومة علي تسويق مبدأ التعدد النقابي وتولت الدفاع عن نقابة المنشأة صورت هذه الدعوات باعتبارها بقرات مقدسة لا يجوز المساس بها.

كان الهدف من وراء ذلك واضحا أمام الحركة النقابية السودانية الصاعدة فتعدد النقابات داخل الفئة الواحدة وتعدد الاتحادات النقابية يعني تفتيت وحدتها، أما نقابة المنشأة فالهدف من ورائها يتمثل في إغراق النقابة بالتناقضات في المصالح بين عضويتها وبالتالي اضعاف الانسجام الطبقي المفضي الي وحدة المطالب أمام المخدم. إلا ان هذه الدعوات قد تكسرت أمام صخرة الوعي الفطري للمجموعات النقابية الثورية الصاعدة بعد ثورة ديسمبر والتي تعرف بالغريزة أن قوتها في وحدتها فتكونت نقابة الصحفيين الفئوية الموحدة ونقابة الأطباء الفئوية الموحدة وتسعي لجنة المعلمين السودانيين الي تكوين نقابة المعلمين الفئوية الموحدة وكذلك اساتذة الجامعات والعاملين في حقل التمريض والمختبرات والاشعة والحرفيين وعمال الموانئ ولا يزال الحبل على الجرار.

مستغلين أجواء الحرب، نشطت هذه الايام بعض المنظمات الدولية بالتدخل في الشأن النقابي السوداني ومحاولة فرض النموذج الامريكي للنقابات مستخدمين اساليب قريبة من تلك التي وصفها فيليب اغي في كتابه وذلك عبر تمويل فعاليات وورش نقابية الهدف منها تسويق النموذج الامريكي للنقابات عبر سلاح التمويل، حيث يتم عرض التمويل المؤسسي مقابل تكوين اتحادات نقابية علي النسق الامريكي مع التحذير الشديد من الشيوعية.

هنا لابد الاشارة لحديث الاستاذة لينا الشيخ وزيرة العمل السابقة أمام عدد من النقابيين أن الحكومة الامريكية أثناء مفاوضاتها مع حكومة د. عبد الله حمدوك قد وضعت شروطاً للتطبيع ودخول الاستثمارات الامريكية للسودان من ضمنها قانون النقابات. إذن فأمر النقابات داخل السودان بالنسبة للحكومة الامريكية ودول الهيمنة الامبريالية الأخرى هي قضية استراتيجية تبذل فيها الاموال الطائلة من أجل تغيير بيئة العمل النقابي فيه.

نافلة القول أن مشروع انجوة النقابات مثله مثل انجوة السياسة هو مشروع يهدف الي القضاء علي الطبيعة الجماهيرية للعمل النقابي وذلك عبر تفتيت وحدته وتتحويل النقابات الي منظمات معزولة ضعيفة الصلة بقواعدها، فحينما تتولي منظمة دولية دعم العمل المؤسسي للنقابة (Institutional Support) ذلك يعني ان الأداء المؤسسي لهذه النقابة قد أصبح يعتمد علي المنظمة الدولية وليس عضوية النقابة وبالتالي يتحول العمل المؤسسي للنقابة الي نشاط تابع للمنظمة الدولية وليس النقابة و حتي ينتهي بها الامر في خاتمة المطاف الي مجرد منظمة طوعية غير جماهيرية عالية الصوت في الاسافير والمحافل والاجتماعات والورش ضعيفة الاثر علي الارض.

ختاماً فان ما يطمئن جدا ان الحركة النقابية السودانية ورغم الانقطاع الذي حدث، هي حركة نقابية قديمة ولها أرثها الضارب في الجذور، كما أن النقابيون السودانيون رجالاً ونساءاً تتوفر لديهم الغريزة والحس النقابي السليم الذي يقيهم من الوقوع في شراك هذا النوع من التدخلات الناعمة.

المراجع:

  • Carew, Anthony (1996). "Conflict Within the ICFTU: Anti-Communism and Anti-Colonialism in the 1950s". International Review of Social History. 41 (2): 147–181. doi:10.1017/S0020859000113859. ISSN 1469-512X.
  • Agee, Philip (1975). Inside the Company: CIA Diary. Farrar Straus and Giroux. p. 541. ISBN 978-0883730287.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *