الفنان المرحوم صديق عباس

بحث: الخضر احمد الخضر الفادني

صديق عباس عبد الله عبد الرحمن من مواليد مدينة النهود في العام 1942م , تشكلت ملامح طفولته بحي الختمية بالخرطوم بحري, تلقى تعليمه بمرحلة الاولية والوسطى بمدينة النهود وتخرج من معهد بخت الرضا بالدويم.

عمل معلما بمدرسة ام سيالة غرب أم درمان ثم بعدد من المدارس في مدن النهود وغبيش و تخصص في تدريس مادة الجغرافيا واللغة العربية.

من خلال عمله في مدينة غبيش تعلم عزف العود وبدأ مسيرته الفنية مقلدا ومرددا لأغنيات عمالقة الأغنية السودانية ابراهيم عوض ومحمد وردي وأحمد المصطفى وكان يشرف على المسرح والجمعية الأدبية وكون فرقة للغناء والمسرح من التلاميذ الموهوبين وكان يطلب منهم احضار أعمال تجسد تراث كردفان وقد ساعدته تلك الحصيلة من الأعمال في دعم مشواره الفني لاحقا.

في تلك الفترة اقامت وزارة الاستعلام والعمل مهرجانا للتراث شارك فيه من الولاية الشمالية الطيب عبد الله ومن ولاية كسلا ابراهيم حسين ومن الشرق أدم شاش ومن كردفان صديق عباس وثنائي كردفان (أم بلينة السنوسي وفاطمة عيسى) واسفر المهرجان عن فوز فرقة كردفان بالمركز الأول وكان من ضمن أعضاء الفنان ابراهيم موسى أبا وجمعة جابر ومحمدين مدني.

بعد ذلك نقل الى مدينة الابيض حيث رشحته وزارة التربية والتعليم للدراسة في معهد الموسيقى والمسرح والذي درس فيه لمدة خمسة سنوات الى جانب محمد وردي وعثمان مصطفى وعبد القادر سالم وبعد تخرجه عمل رئيسا لشعبة الموسيقى بمعهد تدريب معلمات المرحلة المتوسطة بالابيض ومنه انتقل لمعهد تدريب المعلمات بمدينة أم درمان وفي العام 1983م عمل قدم استقالته وتفرغ لعمله الفني.

البيئة التي عاش فيها الفنان “صديق عباس” حببته في أغاني التراث وإيقاع المردوم فكان يعشق الأغاني التراثية المقرونة بالحداثة، فغنى بإحساس عالٍ أهله لدخول الإذاعة، وﺗﻤﺖ ﺇﺟﺎﺯﺓ ﺻﻮﺗه ﺑﻌﺪ ﺍﻷﻏﻨﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ قدمها ﻓﻲ برنامج ﺍﻟﺮﺑﻮﻉ الذي كان يقدمه علي الحسن مالك وهو ﺍﻟﻔﻨﺎﻥ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﻟﺠﻨﺔ ﺍﻷﺻﻮﺍﺕ ﻭﺍﻹﻟﺤﺎﻥ التي قالت: (ﺍﻟفنان ﺩﺍ ﻳﺠﻲ ﻳﺴﺠﻞ ﻟﻺﺫﺍﻋﺔ)

مضى صديق عباس بخطوات جادة في تكوين تجربته الغنائية الخاصة المتماسكة وتعامل مع عدد كبير من الشعراء ولحسن اختياره لأشعار اغنياته بحكم وظيفته معلما لمادة اللغة العربية وامتلاكه لناصية التلحين شق طريقه بثقة وثبات وقدم عدد من الروائع التي ذاعت وانتشرت وخلدت في مكتبة الغناء السوداني عبر صوته الصداح.

كانت أغنية مطر الرشاش للفنان صديق عباس والتي كتبها محمد عبد الله ابكر خير إستهلال وبداية مبشرة لفنان شاب يرجى منه الكثير في عالم الغناء وفي المساحة التالية نقتبس نقد وتحليل لأغنية مطر الرشاش من ابن كردفان الأخ الصديق كبر (كاتب وأديب بموقع سودانيز اونلاين)

(مطر الرشاش) كلمات محمد عبد الله ابكر لحن وغناء : صديق عباس

كلمات محمد عبد الله ابكر لحن وغناء صديق عباس

مطر الرشاش ..الرشا فوق دار كردفان الهشة

انا عقلي طار وطشا ورا المراح النشا الوراهو ، سايرات ناس عشه
*
بت التلب اب قشة اخت النمور الساكنة في الخــُشة

جات لابسة السوار اب نقشة باحلى العطور مترشة
*
صابت عقولنا الدهشة نحن القبيل قلنا ما بنتغشا

زينة البنات يا عشه رحماك بي عقيلا طشا
*
حالف يمين يا عشه ، ما اضوق ، والله ، للنوم هبشه

لو ما حنيتي يا عشه ، يا ست البكيرة الغبشه

 

الشاعر الأستاذ محمد عبد الله ابكر ، من اكثر شعراء كردفان وصفا لطبيعتها ، ويتميز شعره بالتصاوير الكثيفة ، والتعبير عنها بمفردات كردفانية موغلة في المحلية ، وهو يعد اخر عمالقة الذاكرة الكردفانية الشعرية.

وخير مثال لهذه الأقوال هي قصيدته الشهيرة (مطر الرشاش) والتي لحنها وغناها الأستاذ الفنان صديق عباس…وهي ظهرت في اواخر الستينات وبداية السبعينات، حيث كان التنافس بتقديم اعمال كردفانية بحتة..

في هذه القصيدة، يمتثل الشاعر محمد عبد الله ابكر الى تقاليد الشعر العربي القديم ، حيث يكثر وصف الطبيعة ، ثم المدح ، ثم الغزل..أضافة لوصف المحبوبة وانعامها وارومتها الكريمة.

(الرشاش) هو بداية فصل الخريف في كردفان ، وغالبا يكون في الشهور اواخر مايو ، يونيو وبداية يوليو، وفيها لا تكون الأمطار كثيفة ، وانما متناثرة ومتباعدة في زمن هطولها ويتميز النهار بطول الساعات النسبي فيقولون (نهار الرشاش طويل ، وليله قصير ، ونهار الشتاء قصير وليله طويل)

(دار) وهي تعني اقليم بالمفهوم المعاصر ، و(الهشة) ، صفة الرمال ، حيث ان معظم الأراضي في كردفان ، خصوصا الأجزاء الشمالية منها ، فهي اراضي رملية..ويسمونها ارض (القوز/القيزان)..

(انا عقلي طار وانطشا) ، أي اصابه الخبل والجنون بفعل الجمال الذي راه..

(المراح)..المجموعة من البهائم (ابقار ، ابل ، اغنام..الخ)..واقل العدد فيه يكون ثلاثين..

(النشا)..ويقولون (البهائم نشت) سواءا كانت ابل او ابقار او اغنام ، أي انطلقت نحو المرعى ، وعادة يكون زمن ذلك في الصباح الباكر..وحينما تعود من المرعى يقولون (البهائم دخلت) أي رجعة الى مقرها (الفريق/الدكة) ..

و(نشت) تختلف عن (ظعنت) ، والظعن هو المسير من محطة الى اخرى..!

(سايرات) أي ماضيات او ماشات..وعادة المرأة الكردفانية البدوية ترعي بالبهائم سواءا كانت ابقار او ابل ، وفي عملية الرعي ، تمشي خلف المراح لتسهل لها عملية المراقبة في الفلاة..وغالبا ما تمارس صناعة (ضفارة) البروش اثناء الرعي..!

(بت التلب) ، التلب معروف وهو الجمل الكبير..وهنا يمدح والدها بانه له مقام عالي ورفيع بين المجتمع..

(اخت النمور الساكنة في الخشُة) ، وهنا يمدح اخوانها الشجعان ، (الخشُة)..مجموعة من الأشجار أو الأعشاب المتماسكة والمتلفة بكثافة ، والتي تخفي ما بداخلها..خصوصا الحيوانات الكاسرة (نمور ، اسود ، الخ)..والإختباء فيها يمكن الكائن من المراقبة الدقيقة لما حوله..

(السوار) اداة زينة توضع على المعصم ، وفي كردفان غالبا ما يصنع من الفضة..وهناك انواع منه مثل الجبيرة والتي تكون مفلطحة ورفيعة ، والسوار الذي يكون مدبب واكثر سمكا.. مثل هذه الأسورة كانت تزين بنقوش ورسومات تكون ظاهرة فيها..!!

(باحلى العطور مترشة) ، أي متعطرة..

(صابت عقولنا الدهشة) أي التعجب والإنبهار من الجمال الذي رأيناه..

(نحن القبيل قلنا ما بنتغشا) أي كنا نظن اننا لن تبهرنا الأشياء..

(زينة البنات يا عشه) أي اجملهن..

(رحماك بي عقيلا طشه) أي رفقا بنا وبعقولنا التي اصابها الجنون والإنبهار بفعل مشاهدتها لهذا الجمال..

(حالف يمين) أي اقسم..الا انام مطلقا ان لم انال عطفك وحنانك..

(ست البكيرة الغبشا) ، بكيرة تصغر بكر ، وهو يقصد ان لها ناقة او بقرة ، بكر اي انجبت لأول مرة ، والغبشا هو لون هذه البكر))

شعراء أغنياته :

محمد عبد الله ابو بكرمطر الرشاش، اتلموا ياكباري
الصادق الياسدموع في الغربة بكاية, اعمل معروف
محمد الشباتيعبر الأثير
بدر الدين حسنتعال نحلم
عبد العال السيدسقاي الورد
عوض ابراهيم عوضوصوني بيك، ومالك علي ياعين, بنات كردفان
صالح محمد حوريهجننونا بالخدار
يحي حمادالتلال
عزمي أحمد خليلصافي نية
محمد متوليأشقيني
عبد الله الكاظمالله يصبرك، اللالية, صافي نيه وصافي قول

إضافة لأغنيات الورد بيجرح والنجوم وماتشفقي علي والقدم ليهو رافع ويمه وشوق السنين والمطرة الشايلة وادرج مشي والليموني وهي تراث كردفاني.

لحن له الفاتح كسلاوي اغنية عبر الأثير والماحي سليمان أغنية بنات كردفان وحسن سليمان اغنية صافي نيه ومحمد متولي اغنية أشقيني ويحي حماد أغنية التلال.

قدم الفنان صديق عباس اربعة البومات غنائية وهي مطر الرشاش وتعال نحلم وعبر الأثير والقدم ليهو رافع

ظل المبدع صديق عباس يعاني من ويلات المرض قبل وفاته ومن ﺗﺠﺎﻫﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺍﻷﺟﻬﺰﺓ ﺍﻹﻋﻼﻣﻴﺔ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ و ﺍﻟﻘﻄﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﻬﺘﻤﺔ ﺑﺎﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﻔﻨﻲ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣاقدمه ﻣﻦ ﺇﺑﺪﺍﻉ ﻟﻠﺤﺮﺍﻙ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺍﻟﻔﻨﻲ ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ الى ان اسلم الروح لباريها ورحل عنا في صمت في يوم الخميس 11/6/2015م ودفن بمقابر البندراي بالحاج يوسف, وبموته انطوت صفحة فنان مبدع مرهف قدم الكثير من البذل والعطاء لإسعاد الوجدان السوداني وعزاؤنا انه سيظل بيننا بكل أعماله الجميلة الخالدة الى ان تقوم الساعة.

له الرحمة والمغفرة والرضوان.

المصادر :

  • حوار صحفي اجرته رحاب ابو عبيدة بابكر مع الفنان صديق عباس في صحيفة الصحافة السودانية في العام 2008م.
  • حوار صحفي لسراج النعيم نقلا من أوتار الاصيل
  • حوار صحفي لسعدية الياس
  • نقد وتحليل أغنية مطر الرشاش بقلم الأستاذ كبر

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *