عن مشروع التغيير الجذري في السودان (2/3)

تحدثنا في المقال السابق عن ملامح مشروع التغيير الجذري في السودان ومشروعه التنموي المتعلق بتاسيس نمط اقتصادي انتاجي يعمل علي استغلال الموارد الطبيعية بصورة مثلي ويعمل علي اضافة قيمة للمواد الخام قبل تصديرها وذلك بتأسيس نهضة زراعية صناعية ذات طابع اجتماعي يتشارك الجميع في بنائها والاستمتاع بعائداتها.

في هذا المقال ستناول بالشرح المبسط ملامح البنية الاقتصادية الموجودة حالياً وكيف افضت بنا الي حالة الصدام المباشر مع قادة المؤسسة العسكرية والامنية.

في البدء اشير الي البنية الاقتصادية الحالية قد اسست خلال الفترة الاستعمارية حيث عمل المستعمر البريطاني علي بناء قاعدة زراعية تعمل علي امداد المنظومة الصناعية البريطانية بالمواد الخام لذلك نجده قد ركز علي زراعة القطن والحبوب الزيتية علي سبيل المثال، كذلك نجد ان نظرية المستعمر البريطاني في التصنيع لم تتجاوز تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الضرورية مثل صناعة النسيج والزيوت والصابون.

قبيل خروج المستعمر نجده قد سعي لايجاد طبقة اجتماعية تتولي ادارة هذه البنية الزراعية والاقتصادية وتحافظ علي دور التبعية للاقتصاد البريطاني بصفة عامة. هذه الطبقة تشكلت من مجموعة راسمالية مسيطرة علي المشروعات الزراعية والصناعية الرئيسية ومجموعات من المتعلمين تعليماً استعماريا حيث لعبوا دور مستودع الافكار وقاعدة الخبراء والمستشارين للدولة السودانية، كذلك نجد قيادات الادارة الاهلية والذين لعبوا دورا كبيراً في ضمان انسياب المواد الخام من مواقع الانتاج الي موانئ التصدير باسعار زهيدة تعظم من ربحية الشركات الراسمالية الاجنبية وحلفائهم من الطبقة الراسمالية في السودان.

ولان هذا النظام الاقتصادي هو في جوهره نظام غير عادل فقد ارتفعت العديد من الاصوات في مناطق انتاج المواد الخام وعدد كبير من المتعلمين في المدن احتجاجاً علي عدم عدالة هذه البنية الاقتصادية والتي تعطل نهضة البلاد الاقتصادية والمتمثلة في بناء قاعدة صناعية تعمل علي الاستفادة من المواد الخام الموجود في البلاد وتحويلها الي سلع (راجع كتاب كوامي نكروما الاستعمار الجديد- آخر مراحل الامبرايالية 1966م).

هنا دخلت المؤسسة العسكرية في الخط حيث عملت عبر مجموعات من الضباط المغامرين والذين لديهم مصالح في استمرار هذه البنية بالتدخل وقطع الطريق امام اي محاولة لهدم هذه البنية واحلال المشروع التنموي الوطني الديمقراطي.

حدث ذلك في انقلابات 1958م و1969م و1989م و2019م و2020م. في هذا الصدد ينبغي التأكيد علي ان انقلاب مايو 1969م لم يكن انقلاباً لصالح مشروع البناء الوطني الديمقراطي بل كان كما وصفه الشهيد عبدالخالق محجوب انقلاباً للبرجوازية الصغيرة المستعجلة والتي تسعي الي حرق المراحل وانجاز مشروعها بعيداً عن الحركة الجماهيرية مما يقطع الطريق امام مسيرة التطور الطبيعي للحركة الجماهيرية ويطرح قضية الديمقراطية كقضية جوهرية.

في عهد البشير حدث تطور مهم في تركيبة الطبقة المسيطرة علي البنية الاقتصادية السودانية حيث وجدت المؤسسة العسكرية نفسها مطالبة بالتصدي للعديد من النزاعات الداخلية المسلحة في اكثر من منطقة وفي نفس الوقت عجزت الدولة عن توفير الموارد اللازمة لقيام المؤسسة العسكرية بالتصدي لهذه التمردات. نتج عن ذلك اختلال كبير في موازين القوي حيث قررت المؤسسة العسكرية انتزاع قسم كبير من موارد البلاد الاقتصادية من الدولة وتولت ادارتها بنفسها وتسخير عائداتها لصالح هذه المؤسسات ليتحول قادة هذه المؤسسات الي طبقة رأسمالية جديدة مسيطرة علي جل موارد البلاد الاقتصادية [راجع حديث د.عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق لبرنامج مؤتمر اذاعي اغسطس 2020م، ايضا راجع:

اليكس ديوال (2019): Sudan: A Political Marketplace Framework Analysis, De_Waal_Sudan_a_political_marketplace_analysis_published .pdf (lse.ac.uk)]

اشير هنا الي ماحدث كان تطوراً متوقعاً لفشل البنية الاقتصادية السودانية في تحقيق العدالة في توزيع الثروة والغياب التام لمفهوم العدالة الاجتماعية داخل هذه البنية. وهذا هو جوهر ثورة ديسمبر وهذا هو التجلي الابرز لشعار حرية- سلام – وعدالة، فثورة ديسمبر قامت ضد تحالف كبار الضباط وقمم الراسمالية الطفيلية التي تعمل علي تدمير البيئة ونهب الموارد وبيعها في صورة مواد خام، وتسعي لإحلال البديل التنموي ذو المحتوي الوطني الاجتماعي الديمقراطي.

 

أذن.. ما العمل؟

يبرر مناصروا مشروع الهبوط الناعم قبولهم لنهب موارد البلاد بواسطة مجموعات كبار الضباط وطبقة الرأسمالية الطفيلية بأنهم لايملكون السلاح في مواجهة المؤسسة العسكرية والمليشيات التابعة لها، ويصورون مشروع التغيير الجذري كمن يسعي الي جر البلاد الي الحرب الاهلية.

في البدء لابد من التأكيد على ان مشروع التغيير الجذري هو مشروع سلمي وطني ديمقراطي، وحسب فهمي المتواضع يرفض مشروع الهبوط الجذري اطلاق طلقة واحدة في نزاله مع اي جهة كانت- مسلحة او غير مسلحة – حتي وان امتلك المشروع مئات الاف من الجنود وملايين الاسلحة.

فمن يفقد حياته او يصاب في هذه المواجهات هم الجنود وصغار الضباط بينما سوف يعمل كبار الضباط وحلفائهم من رأسمالية طفيلية للاستفادة من اجواء هذه الحرب وانتزاع قسم اكبر من موارد البلاد باسم الحرب وهو ما يسمي باقتصاديات الحرب.

إن مشروع التغيير الجذري لديه سلاحه المجرب وهو سلاح السلمية والذي يمكن استخدامه بفعالية في مواجهة المؤسسة العسكرية والمليشيات المتحالفة معها، فأي مجموعة مسلحة لابد لها من حاضنة اجتماعية تعمل علي توفير شبكة للحماية الاجتماعية وتوفير الدعم اللوجستي والمعلوماتي لها. فإذا توقف المجتمع عن بيع الطعام والوقود وتوفير الحماية الاجتماعية للمجموعات المسلحة العاملة في محيطه فشلت هذه المجموعات وكتب عليها الفناء. كذلك لا تستطيع الشرطة حل قضية جنائية واحدة إذا توقف المجتمع عن الابلاغ عن الجرائم ومد الشرطة بالمعلومات التي تساعدها في فك طلاسم الجرائم وكذلك الحال لدي اجهزة المخابرات.

ان الضغط الاجتماعي على هذه الاجهزة وعدم الاعتراف بما تقوم به من ممارسات اقتصادية غير مشروعة ومقاطعة قادتها سوف يؤدي الي عجز هذه المؤسسات عن القيام بدورها المرسوم لها في حماية البنية الاقتصادية الحالية وتسخير مواردها في غير صالح الشعب.

تلك هي الوصفة السحرية التي تبدأ بمثل هذا المقال ثم تتطور الي وقفات احتجاجية ومواكب واضرابات وارتفاع وتيرة الاحتجاج ضد قيام المؤسسة العسكرية والمليشيات المتحالفة معها بنهب موارد البلاد الطبيعية لتتوج في خاتمة المطاف بالإضراب السياسي والعصيان المدني الشامل.

 

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *