رسالة أبوية إلى شباب و كنداكات ثورة ديسمبر المجيدة
بقلم بروفيسور: مهدي أمين التوم
بسم الله الرحمن الرحين
حياكم الله و أبقاكم و سدد خطاكم .
أنتم تملكون الحاضر بجدارة و بسالة، و أنتم قادرون علي التنظيم و علي التخطيط المتقن لمستقبل وطن نعتز كلنا بالإنتماء إليه، و نفتخر و نحتفي بتاريخه الحضاري الذي لا يزال يدهش الباحثين..سيروا في طريق الثورة بعون الله و حفظه ، و لا شك أنكم ستصلون إلى ما تبتغون ، و ستحققون لوطنكم ما تحلمون.. لكنكم من وجهة نظر أبوية تحتاجون وقفة مع النفس لمراجعة قوائم الرفض التي تمتلئ بها جوانحكم، من أجل أن تمسحوا صفحات كَرَاهية غير مبررة وُضِعَت بخبث في طريق بعثكم الثوري المجيد..
ليتكم تبدأوا بأن لا تَبخَسُوا للأجيال السابقةأشياءَهم. فلقد عاشت تلك الأجيال ظروفاً لم تعيشوها ، و تحكَّمت في حركاتهم و توجهاتهم مُحَدِّدَات لا قِبَل لكم بها في وقتكم الحالي . و رغماً عن تلك الظروف و المُحَدِّدَات كان لتلك الأجيال كَسْبُها السياسي و الوطني الذي يجب أن لا يجد منكم إنكاراً أو تنكراً لأنه مسجَّل في تاريخ أمتنا ، و يأتي علي رأسه ما يشهد به علم الإستقلال ثلاثي الألوان الذي جاء معلناً عن إزاحة حكم إستعماري بغيض ، و مبشراً بميلاد أول دولة أفريقية مستقلة جنوبي الصحراء. و توالى لتلك الأجيال كسبها النضالي دفاعاً متكرراً و مستميتاً عن الديمقراطية و الحكم المدني مما تشهد به سجون نواقيشوط و شالا و سواكن و كوبر و الابيض و كسلا و غيرها ، و تسجله معتقلات موقف شندي و قلاع الأمن في الخرطوم و أمدرمان و عطبرة و مدني ،مثالاً لا حصراً، و بيوت أشباح كريهة هنا و هناك شهدت ما لا عين رأت و لا أذن سمعت من صنوف القتل و التعذيب و الإذلال..
و بجانب هذا و ذاك فإن لتلك الأجيال كسب آخر تَمَثَّل في صمود خرافي لحركة تشريد وظيفي و تهجير ليس له مثيل في التاريخ، بقيت آثاره الجسدية و النفسية في كل زوايا المجتمع، و تمثلت في تشتت غير مسبوق لأبناء و بنات شرفاء و أسر شريفة ظلت تعج بهم الدروب في كل أركان الارض، و ابتلعت بعضهم البحار و المحيطات و الصحاري..
إنه كسب نضالي دفع ثمن بعضه عظماء صعدت أرواحهم الطاهرة في المشانق و الدِروات و في وادي الحمار و في ودنوباوي و الجزيرة أبا ومعسكر العيلفون، و في ربوع دار فور و جنوبي كردفان و النيل الأزرق، في بورتسودان و الشمالية و نهر النيل و في جنوبنا الذي ذهب مبكياً عليه بعد أن روت أرضه دماء أجيال من العسكريين و المدنيين دفاعاً عن وحدة وطنية نشدوها ، كما سالت دماء عسكريين آخرين قدموا أرواحهم في الحرب العالمية الثانية مساهمة في تمهيد الطريق ليكسب السودان حريته و إستقلاله.
إن بناء الأوطان عمل تراكمي للأجيال المتلاحقة و المتجايلة تتحكم فيه ظروف متباينة و يتطلب آليات تختلف بإختلاف تلك الظروف. لهذا ليس من الحكمة أو العدل تبعيضه بشطب بعضه، أو إنكاره ككسب وطني لبعضه الآخر دون تمحيص و فهم عقلاني للظروف المحيطة ،و كمجرد إستجابة آلية غير عقلانية لعمليات غسيل مخ مقصودة تستهدف وضع حواجز وهمية بين جيلكم الثائر و الأجيال السابقة التي لا ينكر عاقل أن لها أخطاء و عيوب تستوجب الإبراز و التحليل علي ضوء الظروف المحيطة آنذاك، لأن معرفة الخطأ هي مكسب في حدِّ ذاته ، ما دمنا نؤمن في تراثنا القومي بأن(العترة بتصلح الدرب) و تفتح العيون لمواضع الخلل ، و لكنها حتماً لا تلغي التاريخ و لا تحاكمه بالإشاعات.
فيا أيها الديسمبريون الأماجد لا تبخسوا الأجيال السابقة أشياءهم ، و لا تنكروا مكاسبهم ، و لا تستهينوا بتجاربهم ، فأنتم جزء من عقد فريد ، و من متوالية زمنية مجيدة تمتد لآلاف السنين ، فلا تجعلوها وليدة شهور و منقطعة جذور..ذلك جرم لا يليق بالثوار بناة السودان الجديد ، حملة رايات ثورة ديسمبر المجيدة ،أحفاد ترهاقا و بعنخي و الكنداكات و المهدي و الميرغني و علي دينار و المك نمر و الازهري و المحجوب و عبدالخالق و قرنق و فاطمة و السارة و بلقيس…إنكم أبناء و بنات وطن عظيم ممتد تاريخاً و كسباً وطنياً، فلا تُقَزِّمُوه ، و لا تنكروا لأجياله المتعاقبة كسبها، مع الإحتفاظ بحقكم كاملا لنقدها ،ففي ذلك سبيل لتجلية الرؤى و تصحيح المسار و القفز بثقة نحو وطن جديد تستحقونه بجدارة . تذكروا دائماً أن الأمم لا تُبنَى بالجحود ،و الهدم، و النكران غير العقلاني لكافةجهود آخرين سابقين أو متجايلين، فلكل جيل كسبه و موقعه في تاريخ أمته.
حفظكم الله و حقق لكم ما تتمنون.