
مزرعة الحيوان: حين تتبدّل الوجوه ويظل القمع سيد الحكاية – من أورويل إلى السودان
في عالمٍ يطفح بالشعارات حدّ التخمّر، وتُرَفع فيه رايات الثورة بينما تُسَنّ سكاكينها في الخفاء، تقف رواية مزرعة الحيوان لـجورج أورويل، لا كقطعة أدبية فحسب، بل كمرآة ناطقة للخذلان الإنساني حين يعلو صوت الطغاة باسم الشعب، ويُجلد العدل بسوط “العدالة الثورية”.

رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل – مجلة يا شباب
لقد كتب أورويل هذه الرواية ليحذّر من استبدادٍ يُولد من رحم الحلم، ومن نخبةٍ تدّعي قيادة الجماهير نحو التحرير، لكنها ما إن تستقر فوق عرش السلطة حتى تنسى الجرحى والمحرومين، وتبني قصورها فوق أكوام الأمل المحطّم.
وإن كان أورويل قد تخيّل خنازير تتسلّم مزرعة، فإننا في السودان ـ ونحن نكابد حرباً ضروساً لم تُبقِ ولم تذر ـ رأينا بأعيننا كيف تتبدّل الوجوه وتبقى الآليات ذاتها: القتل، التضليل، العسف، والمتاجرة بدماء الفقراء.
بين نابليون السوداني و”سنوبول” الهامش
في الرواية، يُقصي “نابليون” زميله الثوري “سنوبول”، لا لأنه خان المبادئ، بل لأنه اجتهد في ترجمتها. ومثل ذلك، في السودان، لم تكن الإطاحة بالأنظمة السابقة انتقالاً نحو الحرية، بل كانت تحريكاً للدمى فوق مسرح واحد، مع اختلاف الأزياء والخطب فقط.
“نابليون” أورويل هو نسخة مصغّرة لكل من تزيّا بلباس “المنقذ” ، ثم أحكم الطوق على أعناق الناس. لقد أقصى رفيقه، أعاد كتابة القوانين، وخوّن كل صوت مُختلف. أليس هذا ما يحدث في الخرطوم، وفي دارفور، وفي الفشقة، حين يُدان الهامش لأنه يطالب بالإنصاف، ويُقدّس المركز ولو خرب البلاد؟
من شعار الثورة إلى وصايا الخداع
تبدأ الرواية بسبع وصايا، تعِد بالحياة والكرامة، ثم تبدأ تلك الوصايا بالتآكل، سطراً بعد سطر، حتى يُمحى كل شيء، ويُكتب على الجدار:
وفي سودان اليوم، أين ذهبت شعارات الحرية والسلام والعدالة؟ أين اختفى الميثاق؟ من الذي نهب الحلم بعد أن هلّلت له الشوارع؟ إن ما فعله “نابليون” في مزرعة أورويل هو ذاته ما فعله ـ ويفعله ـ تجار الدم في بلادنا: يذبحون باسم الوطن، ويسرقون باسم الثورة، ويكذّبون باسم “الوطنية”.
العدسة الخفية للوعي المضلَّل
“مزرعة الحيوان” ليست هجاءً لحكم بعينه، بل نبوءة عن قابلية الشعوب للخضوع حين تُغسل عقولها بالشعارات. فالحيوانات في الرواية لم تكن غبية، لكنها كانت متعبة، مهدورة، تُستغفل حيناً بالدعاية، وحيناً بالخوف، وحيناً بالماضي.
وهذا تماماً ما جرى ويجري في السودان: التخويف من “الفوضى”، التلويح بـ”المؤامرة الخارجية”، تعظيم “الجيش الوطني” ككائن أسطوري لا يُسأل عما يفعل. وبينما يتقاتل الجنرالات على الخرائط، تُمحى القرى من الوجود، وتُهجر المدن، وتُغتصب النساء، وتُشوه الحقيقة… ثم يُقال للناس: اصبروا، فالقائد يعرف الطريق!
ما بعد الخيانة: لا فرق بين الإنسان والخنزير
تختم الرواية بمشهد عبقري: الحيوانات تنظر من النافذة إلى مأدبة تجمع الخنازير بالبشر، فلا تستطيع التمييز بينهما. إنها لحظة انكشاف مطلق:
حين يتماهى الطاغي الثائر مع الطاغي الساقط، فلا يبقى إلا الخراب.
وفي السودان، كم مرة بدّل الطاغية بزّيٍ مدني؟ وكم من لافتةٍ حملت اسم “الحرية”، وكانت في الحقيقة إعلاناً للحرب على الحرية؟ من منا لم يرَ وجوهاً ثورية، ثم اكتشف أن وراءها نفس اليد التي أحرقت القرى، وسرقت القمح، واستباحت السماء؟
خاتمة: أورويل لم يمت… لقد كتبنا
نحن لم نقرأ مزرعة الحيوان، بل عشناها حرفاً حرفاً، ونزفنا ما كتبه أورويل بدمنا وشتاتنا وجوعنا. في كل قرية محروقة، في كل أم تنتظر أبناءها، في كل نازح يحلم بحُجرة تُؤويه، يعيش هذا النص، لا كرمز، بل كواقع.
فليُسجّل التاريخ أن السودان، في إحدى لحظاته، لم يكن فقط “مزرعةً للحيوان”، بل مختبراً لأسوأ ما يمكن أن تفعله السلطة حين تُنزع عنها الرقابة، ويُحاط الطاغية بهالة من الأكاذيب، وتُخرس كل الأفواه إلّا صوت المدفع.
… وحدها الحقيقة، وإن أتت متأخرة، ستطرق الأبواب.

