في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني ٤-٥

مقاربة الداخل في مواجهة الخارج كأساس لنظرية الأمن القومي (الداخل)
تحدّثنا في المقال السابق عن أخطار خطابّي التفوق العروبي والمظلومية الزنجية على الأمن القومي، والحاجة الملحّة للتصدي الحازم لكلا الخطابين، وضرورة تبنّي نظرية جديدة للأمن القومي تستند إلى مقاربة وحدة الداخل في مواجهة الخارج. وفي هذا المقال سوف نتناول مفهوم الداخل من وجهة نظر أمن قومي والمستند على فكرة استقلال مفهوم الدولة عن الحكومة.
مفهوم الداخل في هذا النموذج، نعني به (الأرض – الموارد – المصالح) التي تتشارك فيها المجموعات السكانية المختلفة داخل حدود الدولة السودانية، بما يحقق المنفعة المتبادلة لجميع الشركاء، على أساس من التنمية المتوازنة القائمة على العدالة الاجتماعية.
وهنا يجب الإشارة إلى أن إدارة هذه الشراكة ليست منوطة بالحكومة التي تُعبّر فقط عن إرادة المجموعة الحاكمة، بل منوطة بالدولة التي هي، في جوهرها، بمثابة مجلس إدارة لهذه الشراكة، وتعمل على ضمان مصالح وحقوق جميع الشركاء، وتحقيق التوازن بينهم، بغض النظر عن مواقعهم في الحكومة أو المعارضة. وبالتالي، تكون الحكومة هي الذراع التنفيذي للدولة، وتمتنع عن تجاوز الإطار العام الذي ترسمه الدولة لهذه الشراكة بين مختلف المجموعات السكانية.
يدخل في مفهوم الداخل أيضاً كل علاقة اقتصادية طويلة الأجل تقوم على الاستفادة من الأرض أو الموارد الطبيعية، سواء كانت أراضي، أو معادن، أو مياه، أو غيرها، بما يجعل منها شأناً داخلياً يمسّ مباشرة قضية الأمن القومي السوداني.
فقد أثبتت التجارب أن الأرض والموارد تُعتبران من أكبر المهددات لأمن الدول وسيادتها واستقلال قرارها الوطني، كما أثبتت مجريات السياسة الدولية أن أوسع بوابات هذا التهديد تأتي من خلال الحكومات الفاسدة أو التي لا تحظى بتأييد شعبي حينما تقوم بالتعدي على مفهوم الدولة.
لذلك، فإن الدخول في أي نوع من الأنشطة الاقتصادية أو الدخول في تحالفات أو تكتلات دولية أو إقليمية، يجب أن يتجاوز موافقة المجموعة الحاكمة، ليصل إلى حالة من الإجماع الوطني، كما ينبغي التأكد من أن هذه العلاقات الاقتصادية قد صيغت بشكل يخدم الأمن القومي السوداني، ولا يشكّل تهديداً مستقبلياً. ولا يتحقق ذلك إلا عندما تتوافق مصالح الطرف الآخر وأمنه القومي مع المصالح الوطنية السودانية وأمنها القومي.
كذلك، يجب تجنّب الدخول في علاقات من موقع الضعف الشعبي أو التأييد الجماهيري، لأن ذلك يفتح شهية الطامعين في أرض وموارد البلاد عبر وسائل غير مشروعة. وهذا هو الخطأ القاتل الذي وقع فيه السودان منذ نهاية عهد مايو، وتفاقم خلال حكم البشير، واستمر في الفترة الانتقالية، مما فتح الباب على مصراعيه أمام الأطماع والتدخلات الدولية، وأدى إلى الحرب الدائرة اليوم.
إن نجاح مقاربة الداخل في مواجهة الخارج يقتضي أولاً الاتفاق على أن قضايا الأمن القومي السوداني ليست من اختصاص المجموعة الحاكمة وحدها، بل ينبغي أن تشارك جميع القوى الوطنية في اتخاذ القرار بشأنها، من أجل الوصول إلى حالة من الإجماع الداخلي، تُرسم من خلالها الحدود التي لا يُسمح للحكومة بتجاوزها عند التعامل مع الخارج.
بذلك يتحقّق الفصل الوظيفي والمؤسسي بين الدولة باعتبارها ملكاً للجميع، والحكومة باعتبارها تعبيراً مؤقتاً عن إرادة الأغلبية أو المجموعة الحاكمة.
كما يتطلّب هذا النموذج إعادة تخطيط وتقديم المصالح الاجتماعية والسياسية للمجموعات السودانية المختلفة، بطريقة تُغنيها عن الاستعانة بالعامل الخارجي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن تحقيق ذلك يتطلب عقلاً سياسياً جمعياً استراتيجياً يعيد صياغة المشهد السياسي وفق هذه الرؤية، أكثر من كونه مجرد التزام أخلاقي أو ميثاق شرف.
وهنا يظهر دور الدولة في تطوير هذا النموذج، كما يتجلّى دور الأجهزة الأمنية في مراقبة فعاليته، باعتبار أن هذه الأجهزة تحمي مصالح الدولة، لا الحكومة. كما يأتي دور الصحافة في كشف الخروقات التي تحدث من مختلف الاطراف.
لدينا في الإرث السياسي السوداني تجارب أولية يمكن البناء عليها في تطبيق نموذج “الدولة الحارسة لمصالح الجميع، والحكومة الحاكمة بأمر الأغلبية”. فقد شهد السودان تجارب متعددة لـمجالس السيادة، ومجالس الشيوخ، ومجالس الولايات، كما كانت هناك محاولات لتأسيس مجالس عليا للإجماع الوطني، ومفوضيات عليا هدفت إلى ضم جميع المكونات السياسية والاجتماعية، لتتولى وضع الأطر العامة والحدود التي لا يجوز تجاوزها عند معالجة القضايا المرتبطة بالأمن القومي، خصوصاً تلك المتعلقة بالأرض، والموارد، والسياسة الخارجية.
لكن، وللأسف، تم تهميش هذه المبادرات وابتلاعها من قبل المجموعات النافذة في الحكم، وهو ما يعيدنا إلى الخلل الجوهري في نظرية الأمن القومي السوداني، والذي دفعنا إلى كتابة هذه السلسلة من المقالات، المبنية على فرضية أن نظرية الأمن القومي السوداني قد صُمّمت لحماية المجموعات الحاكمة وضمان استمرارها في الحكم، أكثر من اهتمامها بأمن وسلامة المجموعات السكانية داخل الدولة وتحقيق التوازن بينها.
في المقال القادم سوف نتناول مفهوم الخارج ودوره في مقاربة الأمن القومي التي تقترحها هذه المقالات.