في ذكرى ثورة ديسمبر ٤

لنتذكر حتى نتعلم ٤\٤

في المقال السابق تناولنا بالشرح كيف أسهم انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الي عودة الحركة الجماهيرية الي خانة الهجوم مرة أخري مما أدي الي حالة الشلل والعجز التي عاني منها الانقلابيون طوال الثماني عشر شهراً التي سبقت اندلاع الحرب.

في هذا المقال سنتناول بالشرح أيضاً كيف أن هذا الوضع قد اضطر رعاة مشروع الهبوط الناعم في الاقليم الي اللجوء لتكتيك الحرب كخيار اخير لفرض التسوية والقبول بمشروع التبعية.

في البدء لابد من الاشارة الي أن نية أصحاب مشروع الهبوط الناعم من اللاعبين الدوليين الكبار لم تكن تنطوي على اشعال حرب طويلة ومدمرة كالتي يدور رحاها الان في السودان.

في تقديري المتواضع كان المخطط يهدف الي اشعال حرب خاطفة تؤدي إما الي تمكن ميليشيا الدعم السريع من تحقيق ضربة سريعة وخاطفة علي الجيش، أو تمكن الجيش من إنزال ضربة سريعة وقاضية علي ميليشيا الدعم السريع وفي كلا الحالتين فالهدف الحقيقي هو إعادة ترتيب المشهد السياسي السوداني عبر كسر الارادة الجماهيرية التي ظلت عصية علي التدجين طوال سني الثورة التي امتدت من ٢٠١٨م وحتي ٢٠٢٣م، وإخراجها نهائياً من المعادلة عبر فرض أجواء الحرب والعسكرة، ومن ثم تمكين مجموعات سياسية ومدنية قليلة الثقة في شعبها ولا تؤمن بدور الجماهير لتتولي قيادة البلاد عبر نظام سياسي طيع يقبل قسمة النفوذ السياسي بين دول المحاور الاقليمية والدولية والقبول بسياسة البيع الجائر لموارد البلاد.

فدول الغرب لا ترغب في حقيقة الأمر في دولة تديرها ميليشيا، كما أنها لا تقبل بدولة يقودها الاخوان المسلمون في السودان، ولكن اتي الاخراج سيئاً جدا لمن عهد لهم تنفيذ المخطط من دول المحاور الاقليمية واقصد بها هنا الامارات ومصر والسعودية، والتي اشتد التنافس الداخلي بينها الي درجة انفلت فيها الأمر وتحول الي كارثة حقيقية.

إن كان ثمة دروس يمكن تعلمها كشعب سوداني راغب في السلام والتنمية والاستقرار وكشعوب افريقية وعربية طامحة لمثل ما يطمح له الشعب السوداني في الاستقرار والتنمية، فيمكن تلخيص هذه الدروس في الاتي:

الدرس الأول: نحن نعيش على أرض تذخر بالموارد الطبيعية والبشرية وفي عالم تهيمن عليه دول تمتلك ناصية العلم والتكنولوجيا، ولكنها تفتقر الي الموارد ويسيل لعابها لما بين ايدنا من موارد، وهي مستعدة لفعل اي شيء للحصول عليها.

الدرس الثاني: تعلم الدول المهيمنة على عالم اليوم أن حصولها على موارد البلاد يعتمد على قدرتها في إثارة الخلافات والانقسامات بين النخب المدنية والعسكرية وقطع الطريق أما أي مشروع وطني يهدف الي تحقيق التنمية المستدامة القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية والمشاركة.

الدرس الثالث: تعلم دول الهيمنة النيو ليبرالية علم اليقين أن الشعب السوداني سوف لن يقبل بالتبعية ما لم يقع في روعه وتترسخ القناعة لديه بعجزه وعدم قدرته على تبني مشروع تنموي ذو مضمون وطني قائم على الاستقلال والسيادة والوطنية وتسخير الموارد لصالح رفع المستوي المعيشي للطبقات الفقيرة وزيادة مشاركتها في الانتاج. لذلك هو يقوم بكل ما يلزم لإقناع الشعب وقادة العمل السياسي والمدني والعسكري في البلاد بحالة العجز هذه حتى وإن كان ذلك عن طريق اشعال حرب تبيد نصف الشعب.

الدرس الرابع: ليس في مقدور دول الهيمنة النيو ليبرالية ووكلاؤها في الاقليم رشوة كل الشعب السوداني للحصول على موارده وإلا تحولت العملية من نهب الي صفقة عادلة يستفيد منها كل الشعب، ولكنها تستطيع رشوة فئة محدودة وإقناعها بسياسة نهب الموارد والمدخل الي ذلك يكون عبر إقناع مجموعة من قادة العمل السياسي والمدني بعدم قدرة الشعب السوداني علي تسخير موارده والاستفادة منها. وبالتالي فإن معركتنا هي أقناع الشعب وقادته بقدرتنا على النهوض بعملية تنموية عادلة وذات محتوي وطني بعيداً عن التبعية وسياسة نهب الموارد.

في ختام هذه السلسلة من المقالات، أود أن الفت انتباه القارئ الكريم الي مقارنة مهمة. فللنظر معاً الي دول مثل الامارات ورواندا وسنغافورة، سوف نجدها وعلى الرغم من مظاهر الرخاء والتطور التكنولوجي والعمراني فيها إلا أنها دول بلا هوية معرفية أو تكنولوجية، هي مجرد مستهلك لمعارف وتقنيات الغرب وأكثر ما تطمح له هو تقليد أو إعادة تدوير هذه المعارف، وهي عاجزة عن تحقيق ذاتها في مجال الاقتصاد والسياسة. هذا هو النموذج الذي يسعي الغرب ودول الهيمنة النيو ليبرالية الي تطبيقه في السودان في أحسن الحالات، ذلك إن لم يكن المخطط هو إبقاء السودان مسرحاً للنزاعات والحروب كما هو الحال في مناطق كثيرة عجزت همم نخبها عن اخذ زمام المبادرة وتحمل مسؤولية الحفاظ على مواردها وبيئتها وتحقيق التنمية المستدامة ذات المحتوي الوطني والمستندة على مبدأ العدالة والاجتماعية.

في المقابل دعونا نتأمل في حال دول مثل الصين وفيتنام وماليزيا، وبدرجة أقل الهند والبرازيل. هي دول استطاعت أن تنهض بشعوبها وتثبت أقدامها في طريق التنمية والازدهار فتحولت وفي سنوات قلائل الي قوة اقتصادية وتكنولوجية يهابها الغرب ويضع لها ألف حساب. ذلك هو الدرس الاهم في ثورتنا المجيدة هذه والتي لازالت مستمرة حتى اليوم، وذلك هو المسار الذي نتطلع له والمستقبل الذي نطمح به لشعبنا رغماً عن الحروب والدمار وما ابتلينا به من مليشيات وقيادات عسكرية غير مهنية.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *