في ذكرى ثورة ديسمبر ١

لنتذكر حتى نتعلم ١\٤
في مثل هذا اليوم قبل ست سنوات خرجت عدة مدن سودانية منها الدمازين والرصيرص وسنار وبورتسودان وعطبرة في تظاهرات محدودة سرعان ما اشتدت حدتها وامتدت الي معظم المدن السودانية بما فيها العاصمة السودانية الخرطوم. قاد هذه التظاهرات وتولي التخطيط لها تجمع المهنيين السودانيين وهو أسم لم يسمع به كثير ممن خرجوا في في تلك التظاهرات الاولي فمن أخرجهم حقاً هو احساسهم العميق بضرورة ذهاب نظام البشير بعد أن تأكدوا من فشله وعدم قدرته علي إدارة البلاد.
استمرت التظاهرات منذ ذلك التاريخ ولمدة خمسة أشهر متواصلة حتى أعلنت اللجنة الامنية لنظام البشير تنحيته وتولي الحكم عبر مجلس عسكري انتقالي برئاسة ابن عوف، إلا أن جماهير شعبنا قد تعلمت من تجربتها السابقة في أبريل ١٩٨٥م وأصرت علي اسقاط النظام كاملاً فاضطرت اللجنة الأمنية الي تنحية الصف الاول منها وأبقت علي الصف الثاني الذي تصدر المشهد منذ ذلك التاريخ وحتي هذا اليوم.
علي الرغم من الانقسام الذي حدث على مستوي الشارع بين من يري في المجلس العسكري الجديد امتداداً للنظام السابق ولجنته الامنية ومن يري فيها تغييراً ينبغي التعاطي معه ظل الشارع السوداني يقظاً ومتمسكاً بمطالب ثورته الأمر الذي شكل ضغطاً كبيراً على الكثير من القوي السياسية التي كانت تري ضرورة التعاطي مع هذا القيادة العسكرية الجديدة واقتسام السلطة معها.
إن تمسك الجماهير بمطالبها الثورية وضع الجميع في اختبار حقيقي حول مدي ايمانهم بشعارات الثورة، فعلي الصعيد العسكري بدأت قيادات نافذة في المجلس العسكري وقيادة الجيش التصريح علناً بأن اعتصام القيادة العامة إنما يشكل تهديداً أمنياً للجيش، كما ابدي عدد من القيادات السياسية تبرمها من أن هذا الاعتصام إنما يعرقل المفاوضات الجارية بينهم وبين عناصر المجلس العسكري الانتقالي حول اقتسام السلطة، كما عبرت مجموعات من رجال الأعمال الذين قاموا بدعم اعتصام القيادة العامة عن رغبتهم في إنهاء الاعتصام والوصول سريعاً الي اتفاق لان حالة عدم الاستقرار تلك تضر بالأعمال والتجارة.
التقطت عناصر اللجنة الأمنية والذين هم مجموعة من الضباط المغامرين الذين تعوزهم الاحترافية هذه الاشارات فقرروا ارتكاب جريمة فض الاعتصام، متوهمين أنهم وكما كانوا يفعلون في دارفور وغيرها من مناطق البلاد أثناء حكم البشير سوف يتمكنون من اسكات صوت الجماهير. إلا أن الأمر قد ارتد عليهم يوم الثلاثين من يونيو حين خرجت الجماهير الغاضبة والمكلومة بالخروج في تظاهرات عارمة كادت أن تطيح بمجرمي المجلس العسكري الانتقالي لولا تدخل قيادات سياسية معروفة لإنقاذهم ودعوة الجماهير للتراجع وعدم الذهاب الي القصر الجمهوري أو القيادة العامة، ومسارعة عناصر المجلس العسكري الانتقالي بالتراجع عما أعلنه رئيسهم ويديه لا تزالان تقطران بدماء شهداء فض الاعتصام بعدم الاعتراف بقوي الحرية والتغيير وإجراء انتخابات عامة خلال تسعة أشهر ويتم فيها اشراك المؤتمر الوطني. وهنا لا ينغي لنا أن ننسي الدور الذي لعبته بعض المنظمات الاقليمية وعلى رأسها الإتحاد الافريقي وبعض الدول أيضاً في حماية المجلس العسكري الانتقالي وفرضه على المشهد السياسي علي الرغم من ارتكابه لجريمة فض الاعتصام.
تلك كانت النكسة الأولي في مسيرة الثورة والتي انتهت بتوقيع وثيقتي الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية وأتت بحكومة الفترة الانتقالية الاولي. وهنا تجدر الاشارة الي أن هذه النكسة قد أضعفت الثورة، ولكنها لم تنجح في قتلها، وإن كان ثمة دروس مستفادة من هذه النكسة فهي:
الدرس الأول: هو نقص احترافية مجموعة الضباط الذين تصدروا المشهد في تلك الفترة فالناظر الي سيرتهم المهنية يجدها تفتقر الي التأهيل المهني والأكاديمي المطلوب لتقلد تلك الرتب التي يحملونها أو المواقع التي يشغلونها. كذلك من ينظر الي مسيرتهم المهنية يجدها قد اقتصرت في جلها على قيادة المتحركات العسكرية أثناء النزاعات المسلحة، إما في أحراش جنوب السودان أو صحاري دارفور فهم لم يشغلوا مواقع إدارية حقيقية مرتبطة بالإدارة الاستراتيجية للعمليات العسكرية والتي تكون فيها طريقة حساب المخاطر وإدارتها مختلفة عن حساب المخاطر في قيادة المتحركات وهذا ما يفسر روح المغامرة المفرطة لديهم منذ الحادي عشر من أبريل وحتى اليوم. فالاحترافية ما هي إلا محصلة التأهيل الأكاديمي والخبرة العملية.
بالتالي فان مغادرة هؤلاء اضافة قادة المليشيات جميعهم بما يشمل الدعم السريع والحركات المسلحة جميعهم وخضوعهم للمحاسبة هو شرط ضروري للسلام المستدام.
الدرس الثاني: هو ضعف الطبقة السياسية التي تتصدر المشهد اليوم، والذين يعتذر البعض لهم بأن نظام البشير وعلي مدي ثلاثة عقود قد أضعف معظم الاحزاب السياسية وعمل علي تجفيف صلاتها بالجماهير، إلا أن ذلك لا يبرر أسباب ضعفها الداخلي والتي هي مسؤولة عنه مسئولية مباشرة، حيث نجد ضعف اهتمامها بالبناء السياسي الجاد المتمثل في بناء مؤسساتها الحزبية القاعدية لتكون مرآة حقيقة لنبض الجماهير في كل بقعة من بقاع السودان ووسط كل فئة من فئات الشعب، واكتفائها بالعمل وسط النخب التي هي كثيرة الكلام شحيحة البذل والتضحية فانعكس ذلك سلباً علي الحياة الداخلية في معظم الاحزاب السياسية التي سادت فيها الدسائس والصراعات حول القيادة والنفوذ كما أدي الامر الي غياب البيئة الصالحة لتأهيل الكادر السياسي وجفاف مصادر التمويل ذات البعد الجماهيري لديها فأصبحت تعتمد وبصورة كلية علي تمويل عدد محدود من رجال الاعمال بل وعلي بعض الدوائر الاجنبية فأصبحت بذلك رهينة لهذه الدوائر حتي شهدنا خوف العديد القادة السياسيين من مجرد الاشارة ناهيك عن انتقاد من ولغت ايديهم في قتل الشعب السوداني من دول الاقليم.
إن وقف الحرب واستدامة السلام يتطلب بروز قيادات حزبية جديدة من قواعد هذه الاحزاب ممن لم تتلوث ايديهم بالمال الاجنبي. وهذا ليس دعوة لإقصاء قادة العمل السياسي الحاليين بقدر ما هو دعوة لفتح الباب أمام مزيد من القيادات السياسية للتصدي الي مهام العمل السياسي والجماهيري، فالساحة السياسية اليوم محتاجة الي المزيد من القيادات السياسية علي كافة المستويات، وهذا لا يتم إلا بالانفتاح علي القواعد الحزبية لجميع الاحزاب ودعم وتشجيع العمل السياسي القاعدي المشترك بين عضوية جميع الاحزاب علي مستوي القاعدة.
الدرس الثالث هو أن بلادنا تعاني من طبقة رأسمالية قد اثبتت الاحداث أنها في قمتها ضعيفة اقتصادياً وتابعة، وبالتالي فإنها غير قادرة على النهوض بمهمة بناء اقتصاد وطني حديث يحقق شروط التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. صحيح أن سياسات التمكين والمقاطعة الاقتصادية التي عانت منها هذه الطبقة طيلة سنوات الانقاذ قد اضعفتها، ولكن ذلك لا يعفيها من التصدي لعوامل ضعفها الداخلية والمتمثلة في الركون الي تحقيق الارباح عبر فروقات العملة وتجنبها الدخول في مشروعات صناعية وزراعية ذات طبيعة استراتيجية تعمل على بناء اقتصاد وطني ذو شخصية مستقلة وقبولها بدور الرأسماليات التابعة وهو ما أظهرته بوضوح حرب الخامس عشر من ابريل الحالية.
وهذا ايضاً لا يعني التضييق وحرمان الطبقة الرأسمالية الحالية من ممارسة النشاط الاقتصادي، بل فتح الباب أمام مزيد من رجال الاعمال وتشجيع صغار المنتجين لاقتحام مختلف المجالات وتقديم الدعم لهم عبر سياسيات تعمل على توسيع قاعدة النشاط الزراعي والصناعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر سياسيات تعمل على حماية المنتجات الوطنية وإيجاد ميزة تفضيلية لها تمكنها من المنافسة داخلياً وخارجياً.
الدرس الرابع هو لا يوجد صديق حادب على مصالح الشعب السوداني في هذا العالم، فالشعوب تفرض على الاخرين صداقتها والقبول بمصالحها الوطنية، والشعب السوداني ما لم يدرك مصالحة جيداً ويدافع عنها بالقوة والشراسة اللازمين سوف يستسهل الاخرون حياضه وسوف ينتهكون حرماته.
بالتالي فإن الاعتماد على الخارج سواءً كانت دولاً أو منظمات دولية أو اقليمية دون توفر موقف وطني موحد من قضايا التنمية والبناء السياسي هو في حقيقة الأمر بمثابة القبول بسياسة التبعية والهيمنة. فهناك فرق كبير بين أن تذهب الي العالم حاملاً مطالب الشعب السوداني ومشروعه لبناء السلام المستدام والتنمية وبين أن تذهب اليه طالباً منه أن يتصدى لحلحة مشكلات الشعب السوداني بالإنابة عنه.
هذه الدروس الاربع هي ما ينبغي علينا تعلمه من تجربة الاشهر الاولي من ثورة ديسمبر والتي وحسب تقديري المتواضع لازالت مستمرة حتى اليوم.