حينما يتحول الحق الي حلم بعيد المنال

خلال العديد من النقاشات مع بعض الاهل والاصدقاء حول ما كتبت من مقالات في الفترة الاخيرة بدأت اتلمس أن قسم كبير منهم يعتقد أن ما أكتبه هو عبارة عن رؤي حالمة صعبة المنال، خصوصاً ذلك الجانب المتعلق بقضايا الفقر والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهو السبب الذي دعاني لكتابة هذا المقال وربما ما سوف يعقبه من مقالات.

إن إيمان الانسان بحقه في الحياة والتعليم والصحة والسكن والعمل وغيرها من الحقوق الاساسية كان هو السبب وراء نهضة الكثير من الدول التي ننظر اليها اليوم كدول عالم أول. فعلي سبيل المثال لم بزغ عصر النهضة في أوروبا الا حينما انتشر الوعي بين الناس بأن الفقر ليس إرادة الهية وإنه من الممكن هزيمته بالقليل من العمل وبعض التصميم على مكافحته.

نهضت الشعوب الاوروبية حينما اقنع المواطن العادي فيها أن العلاج من المرض والتعليم الجيد في أي مجال من المجالات لا ينبغي أن يكون حكراً على مجموعة أو طبقة معينة، ونهضت أوروبا أيضاً حينما امنت الشعوب الاوروبية أن جميع البشر لديهم الحق في العمل والسكن والخدمات الاساسية.

لم تجترح دول العالم الاول معجزة مستحيلة حينما نهضت وارتفعت بمستوي معيشة مواطنيها، فحقائق الاقتصاد الاولية تشير الي أن ما في هذا العالم من ثروات يكفي لكي يعيش جميع البشر في هذا الكوكب في مستوي أفضل بكثير مما هو موجود اليوم وذلك إذا ما تمت إدارة وتوزيع هذه الثروات بصورة عادلة، وهذا ينطبق حتى علي شعوب الدول الغنية الذين بدأت الهوة بين الاغنياء والفقراء فيها تزداد خلال العقود الثلاثة الاخيرة.

هذا الوضع ينطبق على بلادنا أيضاً، فحجم الثروات الموجودة في السودان يكفي لأن يعيش أي موطن سوداني بصورة أفضل بكثير مما يعيشه السودانيون اليوم. وهذا ليس زعماً حالماً لا يسنده واقع، فقبل ثلاثين سنة من اليوم كان التعليم الجيد في السودان هو التعليم الحكومي المجاني وكان من يلجؤون الي التعليم الخاص هم أولئك الذين يفشلون في التعليم الحكومي، كما كانت المستشفيات الحكومية مجانية وكانت جودة العلاج فيها عالية. إذن ما الذي جعل هذا الأمر متاحاً قبل ثلاثين أو أربعين عاماً وجعله أمراً حالماً ومستحيلاً اليوم؟

تلك هي القضية، فهناك من يصور لنا هذه الحقوق باعتبارها تَوَهُمات حالمة بعيدة المنال ومن العبث التفكير فيها في الوقت الحالي. وهذا وضع لا يقتصر وجوده على السودان فقط، بل نجد أن في كل الدول الفقيرة تقريباً هناك من يعمل بقوة على إيهام شعوبها باستحالة تحقيق التنمية المستدامة القائمة على مبدأ العدالة الاجتماعية.

إن إقناع المواطن بعدم معقولية المطالبة بالحقوق الاساسية من تعليم وعلاج وعمل وسكن هو ما سهّل للطبقة السياسية في الدول الفقيرة نهب موارد شعوبهم وبيعها بثمن بخس الي دول الهيمنة الرأسمالية وهو ما رآكم الثروات في دول العالم الأول وعطل عجلة التنمية في الدول الفقيرة، وهو أيضاً ما أدي في النهاية الي اندلاع الحروب الاهلية والنزاعات المسلحة في عدد كبير من الدول الفقيرة ومن ضمنها السودان.

فحينما يقتنع المواطن خطاءً أن موارد بلاده لا تكفي لتوفير العيش الكريم له ولأسرته، سوف يتوقف عن التساؤل عن أين تذهب عائدات موارد الدولة وكيف يتم توزيعها ويعمد على قتال أخيه المواطن على الفتات ظناً منه أن ذلك هو كل الموجود. وهذا بالضبط ما جري في السودان ويجري في العديد من الدول المفقرة وليست الفقيرة. فنحن في السودان نتقاتل على الغصن ونترك كامل الشجرة يستمتع بها الاخرون من دول المحاور والهيمنة الرأسمالية ذلك أن هناك من يغمض اعيننا ويصرف عقولنا عن كامل الشجرة ويحصرنا في الغصن فقط.

إن هناك من يصرف عقولنا عن الاسباب الحقيقية للحرب ويحصرنا في الترتيبات الفنية لوقف إطلاق النار وبناء عملية سياسية شكلية لتداول السلطة دون أن يسمح لنا بالنفاذ الي جوهر هذه السلطة ولصالح من تعمل. إن وقف الحرب في السودان والي الابد، مرهون بحصول كل السودانيين على حقهم في العمل والتعليم والصحة والسكن، تلك هي الشجرة التي ينبغي علينا التركيز عليها وذلك هو جوهر السلطة التي سوف توقف الحرب.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

راسلنا

التواصل السريع

الرسالة