من هم المزرعيون الجدد؟ (٥\٥)
هل نحن ازاء حالة إعادة ترتيب للمشهد السياسي السوداني؟
في الحلقة الاخيرة من هذه السلسلة من المقالات سوف ندلف مباشرة الي خيارات اعادة التموضع المتاحة أمام القوى المدنية في مع التركيز على المجموعات التي تدور في فلك مشروع الهبوط الناعم. والسبب وراء ذلك أن القوي الجذرية التي تقف على الضفة الأخرى من المشهد سوف لن تتأثر كثيراً بعمليات إعادة التموضع هذه وذلك لسببين: الأول أن هذه القوي لم تكن يوماً جزء من مشروع الهبوط الناعم وبالتالي فهي أقل تأثراً بعمليات إعادة التموضع هذه التي تجري وسط لاعبي المشروع الاقليميين والمحليين. والسبب الثاني وهو الاهم أن هذه القوي مسلحة بوعي اجتماعي مستوعب لأهمية الربط بين المطالب الاجتماعية والمطالب السياسية ومدرك لخطورة الفصل بينها وبالتالي فإن هذه الميزة تجعلهم أكثر قدرة على اكتشاف مناورات قوي الهيمنة الدولية والاقليمية لتمرير مشروع الناعم الذي اساسه الفصل بين المطالب الاجتماعية والمطالب السياسية مقارنة برصفائهم في المعسكر الاخر والذي لا يمتلكون هذا الوعي.
علي الرغم من ذلك، لا ينبغي لنا الركون الي هذا التحليل والتراخي في بذل الجهد النظري والسياسي الضروري لكشف الاعيب قوي الهيمنة والتبعية والتي نجحت وفي أكثر من مرة في اختراق فصيل الثورة عبر شعارات يسارية بدائية ومتطرفة وسوقهم لخدمة مشروع الهبوط الناعم، خصوصاً أن تباشير هجمة جديدة قد بدأت تلوح في الافق من جهة مجموعات اليسار البدائي المؤمنة بثنائية الجيش مقابل الدعم السريع متجاهلين حقيقة أن كلتا قيادتي الجيش والدعم السريع هما في الاصل ينتمون الي نفس معسكر الثورة المضادة.
أما معسكر المجموعات المنتمية لمعسكر الهبوط الناعم فنجد أنها ومنذ بداية الحرب قد ارتكبت أخطاء سياسية كبيرة أثرت سلباً على جماهيريتها وقبولها لدي قطاعات واسعة من الشعب السوداني. وأول هذه الاخطاء هي التركيز شبه الكامل على العمل الخارجي وإهمال العمل على بناء بؤر للمقاومة والعمل الجماهيري بالداخل، هذه الوضع قد ساعد كثيراً في تمدد قوي الثورة المضادة وعلى رأسها عناصر الحركة الاسلامية والمجموعات التي كانت تدور في فلكهم من إنتهازيي المؤتمر الوطني، كما أسهم خروج معظم القادة السياسيين المنتمين الي هذا المعسكر في تشديد قبضة الأجهزة الأمنية علي ما تبقي من قادة العمل السياسي المدني بالداخل. أما الخطأ الثاني الذي وقع فيه هذا المعسكر فهو عدم الحصافة والاستعجال في إبرام التفاهمات مع ميليشيا الدعم السريع، وهو خطأ نجم في تقديري عن أن إخفاق لدي القوي المدنية المنتمية لهذا المعسكر في فهم العلاقة بين الثورة المضادة والهبوط الناعم فقوي الثورة المضادة هي في حقيقة الامر واحدة من فصائل قوي الهبوط الناعم، بل هي نسخة قديمة منه، وقد أشار حزبنا الي هذه الحقيقة في أكثر من موضع وفي أكثر من وثيقة.
صنفت القوي المدنية المنتمية الي قوي الهبوط الناعم المشهد السياسي الي ثلاث مكونات:
الثورة المضادة: ويمثلها الاسلاميون والجماعات التي تدور في فلكهم والجيش وقسم من الحركات المسلحة،
قوي التغيير الجذري: وهي الحزب الشيوعي وقسم كبير من لجان المقاومة والاجسام النقابية، ثم
قوى الهبوط الناعم: أو كما أطلقوا عليها قوي التغيير التدريجي وتشمل أحزاب قحت وبعض الاجسام النقابية ولجان المقاومة المؤيدة للمشروع وميليشيا الدعم السريع وقسم من الحركات المسلحة.
بناءاً على هذا التصنيف فقد تم التعامل مع الحرب باعتبارها نزاع بين قوي الثورة المضادة ويمثلها الجيش والاسلاميين والدعم السريع المصنف ضمن قوي الهبوط الناعم أو التغيير التدريجي. هذا الاخفاق في التحليل أدي الي أن تنظر القوي المدنية للدعم السريع باعتباره الطرف الاقرب إليهم أو بعبارة أخري الاقرب الي التفاهم مقارنة مع الطرف الاخر.
دفعت القوي المدنية المؤيدة للهبوط الناعم ثمن هذا الاخفاق في تحليل المشهد السياسي أولاً بخروج الحركات المسلحة الموقعة علي اتفاق جوبا والتي كانت جزءاً من كتلة نداء السودان من قوي الحرية التغيير وتكوين كتلة جديدة مؤيدة للثورة المضادة في انقلابها علي حكومة الحرية والتغيير الثانية في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١م. ثم دفعت الثمن مرة أخري في التفاهمات التي أجرتها مع ميليشيا الدعم السريع والتي دفعت ثمنها السياسي سريعاً وفور أقدام هذه المليشيا علي احتلال ولاية الجزيرة وأجزاء واسعة من دارفور وولاية سنار والخراب والانتهاكات الجسيمة التي صاحبت هذه الاحداث.
إن الانتهاكات الجسيمة في حق المدنيين والرفض الشعبي الواسع لميليشيا الدعم السريع قد أدي الي حدوث تحول كبير في مواقف اللاعبين الدوليين الكبار تجاه ميليشيا الدعم السريع، ونتج عن ذلك عملية إعادة تموضع للاعبين الاقليميين في غير صالح دولة الامارات الحليف الاقليمي الرئيس للدعم السريع والقوي المدنية المؤيدة للهبوط الناعم، وبذلك تكون هذه القوي قد خسرت كل من الموقف الشعبي والموقف الاقليمي.
عليه، فسوف تتسم عملية اعادة التموضع بالنسبة لهذه المجموعة بقدر من الصعوبة خصوصاً على المستوي الشعبي، فالشعب السوداني قطعاً سوف ينسي لها تخليها عنه واكتفائها بالعمل السياسي خارج البلاد، كما أن اللاعبين الاقليميين من غير دولة الامارات قد استكملوا رسم ملامح الفترة القادمة وأدوار اللاعبين الرئيسيين فيها وسوف تكون مساحة إجراء تعديلات علي المشهد المستقبلي بغية إدخال لاعبين جدد جد محدودة.
أيضاً نجد أن فصم العلاقة مع دولة الإمارات لها تبعاتها المالية التي لن يستطيع قسم من مجموعات الهبوط الناعم المدنية تحملها، فالحركات المسلحة قد استعاضت عن التمويل الاماراتي باستيلائها على موارد الدولة السودانية وسوف لن يكون في مقدور هذه المجموعات عمل شيء مشابه.
في تقديري المتواضع أن عملية البحث عن حليف إقليمي جديد بنفس الشروط والامتيازات التي كان يوفرها الحليف الاماراتي هي عملية يشوبها قدر من الصعوبة، وبالتالي ففي الغالب الاعم سوف تنتظر هذه القوي ما ستسفر عنه حملة العلاقات العامة التي ابتدرتها دولة الامارات في الآونة الاخيرة مع مصر وعدد من دول الاقليم بهدف ضمان موطئ قدم لها في سودان ما بعد الحرب حيث أن الامارات لازالت لديها كروت قوية في تهديد أمن واستقرار البلاد عبر احتفاظها بكرت الدعم السريع وإمكانية الاستثمار في علاقاتها القديمة مع الحركات المسلحة المعروفة بتغيير مواقفها وخارطة تحالفاتها بين عشية وضحاها. في نفس الوقت نجد أن مجموعة أحزاب قحت لازالت تمتلك كرت ضغط قوي متمثل في أنها لازالت تمثل الوجه السياسي الحزبي المطلوب لاي عملية سياسية مستقبلية وهو كرت إن احسنت استخدامه سوف يضمن لها مكاناً مستقبلياً علي المشهد السياسي شريطة القبول والالتزام بنموذج انجوة العمل السياسي الذي سوف يجردها من أي نفوذ جماهيري حقيقي وبالتالي قدرتها علي التعبير عن تطلعات الشعب السوداني وهو السم الذي قتل معظم الديمقراطيات في دول العالم الثالث.