من هم المزرعيون الجدد؟ (٤\٥)

هل نحن ازاء حالة إعادة ترتيب للمشهد السياسي السوداني؟

كما وعدنا القارئ الكريم، سوف يكرس هذا المقال للحديث عن خيارات إعادة التموضع المتاحة أمام القوي المدنية الداعمة لمشروع الهبوط الناعم في نسخته القديمة. لكن في البدء لابد من عمل إضاءة تاريخية مهمة حتى تتمكن الأجيال الجديدة من معرفة كيف تخلق وتشكل مشروع الهبوط الناعم في بلادنا وماهي مراحل تطوره، فهذا المشروع هو مشروع قديم سابق لظهور قحت نفسها.

في الفترة ما بين ٢٠٠٥م و٢٠١١م كان الهم الاكبر لدول الهيمنة الامبريالية هو العمل على فصل جنوب السودان بصورة سلسة، وقد كان لديهم طموحات كبيرة في جعل جمهورية جنوب السودان الوليدة نموذجاً لنجاح مشروع الهيمنة والنيوليبرالية في المنطقة، وقد أغفلوا حقيقة أن شعب السودان وشعب جنوب السودان هم في حقيقة الأمر شعب واحد يمتلك نفس الخصائص والوجدان الرافض للتبعية والاستغلال.

خلال تلك الفترة عملت دول ما سمي بالترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا والنرويج ) علي استغلال المجموعات الشبابية قليلة الخبرة السياسية والتي كان معظمها يتبني أفكار يسارية بدائية في تأسيس وبناء الحركة الشعبية قطاع الشمال الذي كان بمثابة المدخل لتهيئة الساحة السياسة والوجدان السوداني لمسألة الانفصال، ثم تأسيس ما عرف بالهيئة الشعبية لدعم ترشيح ياسر عرمان للانتخابات الرئاسية في ٢٠١٠م والتي انخرط فيها عدد كبير من الشباب والمثقفين السودانيين معتقدين أن ذلك هو الطريق الوحيد لإيقاف مخطط فصل الجنوب حتى فاجأهم ياسر عرمان نفسه ومن جوبا بقرار انسحابه من سباق الرئاسة في مواجهة عمر البشير. بقرار انسحاب ياسر عرمان من الانتخابات الرئاسية تأكدت كل القوي السياسية من تواطؤ الغرب مع المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على فصل جنوب السودان وهو ما أدي الي انسحاب معظم الأحزاب السياسية من الانتخابات، بل وتبني قسم منها خيار اسقاط نظام المؤتمر الوطني بعد تأكدوا أنه يعمل علي تفتيت وحدة السودان بمساعدة الحركة الشعبية.

للأسف نجح مخطط فصل جنوب السودان وظهرت نتيجة استفتاء فصل الجنوب وبنسبة كبيرة لصالح استقلال جنوب السودان وذلك في يناير ٢٠١١م. في هذه اللحظة انتبه الغرب الذي كان كل تركيزه منصباً علي فصل الجنوب الي حقيقة أنه لم تكن لديهم أي إستراتيجية للتعامل مع شمال السودان بعد فصله من جنوبه، وهو الأمر الذي أدي الي استقالة سكوت غريشن المبعوث الخاص للرئيس الامريكي باراك أوباما من منصبه وتعيين السفير السابق في كل من نيجيريا وجنوب افريقيا برنستن ليمان، والذي كان هو مؤسس فكرة الهبوط الناعم، وهنا أناشد القارئ مراجعة مقال لي منشور علي صحيفة مداميك الالكترونية بعنو “ويسألونك عن الهبوط الناعم” بتاريخ ٤ مايو ٢٠٢٢م

تم تدشين الهبوط الناعم بورقة بعنوان ” الطريق الي الحوار الوطني في السوداني كتبها كل من المبعوث الأمريكي السابق للسودان “برينستون ليمان” بالاشتراك مع المدير السابق لبرنامج إفريقيا بمعهد السلام الأمريكي جون تيمين (راجع مقال لبابكر فيصل بابكر بعنون ” أمريكا والحوار الوطني” منشور في صحيفة الراكوبة الالكترونية بتاريخ ١٣/١٠/٢٠١٦م

تم إجراء عملية استشارات مكثفة حول الورقة تبناها معهد السلام الأمريكي وشملت عدد كبير من الشخصيات السياسية وقيادات مدنية ومجتمعية. إضافة الي عدد كبير من الناشطين بالمنظمات الطوعية.

بعد ذلك تم التوقيع علي تفاهمات بين معهد السلام الأمريكي ومركز الحوار الانساني الذي كان ينشط في إجراء حوارات بين المجموعات المحلية في دافور وبعثة الامم المتحدة في دارفور (UNAMID) والذي تبني الافكار الواردة في هذه الورقة وعمد علي إجراء حوارات بين المجموعات المدنية المعارضة لنظام البشير والمجموعات المسلحة المعارضة له وبالفعل تمكن في أديس ابابا يوم الرابع من ديسمبر ٢٠١٤م من جمع كل من الجبهة الثورية وقوي الاجماع الوطني وحزب الامة ومبادرة المجتمع المدني وتوقيع وثيقة نداء السودان، ثم تلي ذلك وثيقة “برنامج العمل المشترك لقوي نداء السودان: طريق اﻻنتفاضة” في اجتماع عقد ببرلين في الفترة من ٢٥- ٢٧ فبراير ٢٠١٥م، ثم اتبع ذلك بوثيقة إعادة الهيكلة التي تم تبنيها في اجتماع عقد في باريس في ابريل ٢٠١٦م.

كان من الوضح ومنذ صدور وثيقة طريق الانتفاضة في اجتماع برلين أن خيار اسقاط النظام لم يعجب الدول الكبرى وعلي رأسها أمريكا علي الرغم من أن الاجتماع نفسه لم يغلق باب الحوار نهائياً مع نظام البشير بل وضع له اشتراطات – راجع مقال للأستاذ سليمان حامد بعنوان المكان للهبوط الناعم في أرض السودان هنا –  وقد مارست هذه الدول ضغوطاً كبيرة علي القوي السياسية الموقعة علي إعلان باريس للتخلي عن خيار اسقاط النظام والتوجه نحو الحوار مع النظام عبر التوقيع علي خارطة الطريق التي وضعتها الالية الافريقية رفيعة المستوي بقيادة ثامبو إمبيكي. قاد هذه الضغوط مبعوث الرئيس الامريكي دونالد بوث والذي تحدث مع قادة القوي السياسية بقدر كبير من الوقاحة في اجتماع برلين، ثم اعترف بهذه الضغوط جبريل ابراهيم علناً في حوار مع راديو تمازج بتاريخ ١٩ يوليو ٢٠١٦م (رابط)، واشار الاستاذ بابكر فيصل الي نفس الشيء في مقاله المذكور أعلاه وسيكون من المفيد لو تحدث من حضروا ذلك الاجتماع بما دار فيه وما تلي ذلك من أحداث لمصلحة الاجيال القادمة في تعاطيهم مع المبعوثين الامريكان والاوروبيين.

بالفعل نجحت الجهود الأمريكية والأوروبية في إقناع المجموعات المسلحة داخل نداء السودان ومجموعة كبيرة من القوي المدنية داخل التحالف بالتخلي عن خيار اسقاط النظام والقبول بمبدأ التفاوض مع نظام البشير والتوقيع على خارطة الطريق الافريقية حيث وقعت عليها كل من الجبهة الثورية وحزب الامة وحزب المؤتمر السوداني بقيادة عمر الدقير والذي لعب دوراً كبيراً في خروج حزب المؤتمر السوداني وأحزاب أخري من تحالف قوي الاجماع الوطني.

بموقف رافض لخارطة الطريق الافريقية ومتمسك بخيار اسقاط النظام خرجت الاجماع الوطني من تحالف قوي نداء السودان الذي أصبح يضم الجبهة الثورية بشقيها وحزب الامة وحزب المؤتمر السوداني وعدد من الأحزاب الأخرى. أما كتلة المنظمات المدنية فقد انقسمت بين مؤيد لمبدأ التفاوض مع النظام ومن تمسك بمبدأ اسقاط النظام وكذلك الكتلة الاتحادية التي انقسمت تياراتها بين الموقفين، واستمر الحال على هذا المنوال حتى اندلاع ثورة ديسمبر ٢٠١٩م.

بناءاً على السرد عاليه نجد أن مشروع الهبوط الناعم قد تمت صياغته قبل تكوين قحت، كما أن عدد كبير من القوي المكونة لقحت/ تقدم قد كانت لديها مواقف قوية ضد المشروع تم تليينها مع الزمن باستخدام مجموعة من المحفزات على رأسها التمويل وحملات العلاقات العامة التي يتم فيها تقديم قيادات هذه المجموعات كممثلين للشعب السوداني أمام العالم.

أما من لم يستجب لهذه المحفزات فقد تعرضت معظمها للانقسامات لوضعها أمام واحد من خيارين إما الرضوخ بالأمر الواقع أو يتم التفكيك بخلق الانقسامات داخل نواتها الصلبة وبنيتها الجماهيرية. وتجدر الاشارة هنا أن هذا السلاح ظل مستخدماً منذ ذلك الوقت وحتى يومنا حيث استخدم مع عهد الحركات المسلحة وتجمع المهنيين السودانيين وتجمع القوي المدنية ولجان المقاومة وغيرها.

بناءاً على ما سبق يمكننا استنتاج الاتي:

  • ان مشروع الهبوط الناعم إنما هو في طبيعته مشروع عالمي لحكم شعوب الجنوب الفقيرة والحاقهم بالنظام النيوليبرالي القائم على التبعية الاقتصادية والسياسة لقوي هيمنة دولية وإقليمية. وتمت تسمية النسخة السودانية من هذا المشروع بالهبوط الناعم.
  • هذا المشروع يتميز بقدرته الكبيرة على التحور استجابة للمتغيرات بما يعطيه هامش مناورة علي وقدرة علي تضليل الجماهير عبر نسخ متعددة كل فترة، وإن السبيل الوحيد لاكتشاف هذه النسخ هو الفهم الجيد لطبيعة وجوهر المشروع.
  • طبيعة المشروع هي إجراء تسوية يتم فيها اشراك الجميع بهدف ادماج البلاد في نظام التبعية النيوليبرالي ولهذا السبب نجد الإصرار على كلمة الشمول (Inclusivity) في أدبيات الهبوط الناعم وهو مفهوم يتناقض مع مفهوم الثورة والتي هي في جوهرها قيام طبقات ومجموعات اجتماعية مسحوقة ومقموعة بهزيمة وإزاحة مجموعات مسيطرة وانتزاع السلطة منها. وبالتالي فكل من يشجع أو يلمح أو يغض الطرف أو يدعو الي تأجيل الصراع مع أي من عناصر الثورة المضادة هو في حقيقة الامر قد انتقل من مربع الثورة الي مربع الهبوط الناعم.
  • جوهر المشروع هو بناء مظلة واسعة من المجموعات المسلحة والمدنية المتنوعة سياسياً وثقافياً وإجتماعياً لخدمة مشروع الاندماج في النظام النيوليبرالي القائم علي التبعية لمحاور دولية وإقليمية ونهب الموارد المحلية، بالتالي فإن المشكلة ليست في مع من نجلس للحوار بل تتمحور في علي ماذا نجلس – راجع مقال للأستاذ صديق التوم علي الفيس بوك – الرابط
  • حتى تتمكن هذه المجموعات المتباينة من تحقيق هذا الاندماج فلابد لها من التخلي عن خلفياتها السياسية والأيديولوجية لتتحول الي مجرد مسميات بلا مضمون، فالشيوعيون يتوجب عليهم التخلي عن اشتراكيتهم العلمية والقوميون العرب التخلي عن خلفيتهم العروبية واحزاب اليمين التقليدي عن مشروعهم الوطني المحافظ، وهنا لا بأس من الاحتفاظ بالاسم، ولكن التخلي عن المضمون ضروري ولازم، فعلي سبيل المثال لابأس بل ويحبذ أن تحتفظ لجان المقاومة باسمها ولكن التخلي عن مفهوم المقاومة هو مسألة ضرورية.

ختاماً

يمكننا القول أن مشروع الهبوط الناعم ظل يعبر عن السياسة الامريكية وحلفاؤها في السودان لسنوات عديدة سبقت ظهور قحت نفسها. كذلك نجد أنه الي جانب الاثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة الناجمة عن مشروع التبعية النيوليبرالي فإن لهذا المشروع تبعات سياسية لا تقل خطورة، فعلي الرغم من التعاطي الإيجابي لعدد كبير من الأحزاب السياسية السودانية مع المشروع إلا أن المشروع نفسه ظل يسعي لإضعاف هذه الاحزاب لصالح أفراد غير منتمين لاي حزب وبالتالي غير مساءلين أمام اي مؤسسة جماهيرية بما يخدم نموذج أنجوة السياسة، وقد ظهر هذا النسق جلياً خلال الفترة الانتقالية بسطوع نجم عدد كبير من السياسيين غير المنتمين لأي حزب أو مجموعة سياسية.

بالرجوع الي روابط المقالات المرفقة في هذا المقال، يمكننا القول أن أحزاب قحت ليست بلاعب أصيل في هذا المشروع بل قد تم إقحامها فيه بواسطه عناصر قيادية نافذة في هذه الاحزاب مؤمنة بنظام التبعية وتري مصالحها الشخصية ومستقبلها السياسي فيه، وذلك بما يتعارض ومصلحة جماهير هذه الاحزاب. وهذا ما يفسر رفض قطاعات واسعة من قواعد الاحزاب لموقف الحكومة الانتقالية من ملفات مهمة مثل ملف تحرير الاسعار وسياسات البنك الدولي وملف التطبيع مع اسرائيل وملف قانون النقابات.

هذه المجموعات النافذة داخل الأحزاب وباتفاق كامل مع عدد من الافراد غير المنتمين لأحزاب سياسية والذين يدورون في فلك القوي الدولية والإقليمية صاحبة المشروع هم الذين هندسوا عملية إنحراف قحت نحو التسوية ومشروع التبعية وهؤلاء هم اللاعبون الاصيلون في هذا المشروع وسوف يواصلون العمل من أجل تحقيق واحدة من أهم أهداف الهبوط الناعم وهي تحويل السياسة في السودان الي عمل يقوده أفراد بلا مؤسسات سياسية أو مساءلة من جماهير، ومع كل مرحلة سوف يظهر لاعبون جدد يؤدون نفس الدور.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

راسلنا

التواصل السريع

الرسالة