من هم المزرعيون الجدد؟ (١\٥)

هل نحن ازاء حالة إعادة ترتيب للمشهد السياسي السوداني؟
في مقال سابق تحدثنا عن أن الهدف النهائي لهذه الحرب هو إقامة وترسيخ دولة التبعية وفقاً لتصورات قوي الهيمنة الاقليمية والدولية، وقطع الطريق نهائياً أمام دولة العدالة الاجتماعية المنحازة للفقراء والمسحوقين. كذلك تطرقنا عن كيف تنظر قوي الهيمنة الدولية والاقليمية لقوتين هما على طرفي النقيض كمهدد لمشروعها وتعمل بقوة من أجل القضاء عليهما وأعني هنا مجموعات الاسلاميين التقليديين الممسكين بتلابيب الجيش والدولة اليوم، وقوي اليسار الثوري الذين يحظون باحترام كبير وسط الشارع السوداني.
ارتبك البعض من هذا التحليل وأجد لهم العذر غاب عليهم أن المقال إنما يعكس وجهة نظر قوي الهيمنة النيوليبرالية على المستويين الدولي والاقليمي الممسكة بأطراف الحرب وهو ما كان حرياً بالمقال الشرح والابانة فيه بصورة أكثر وضوحاً وتفصيلاً، وسيتم تكريس سلسلة المقالات القادمة لتحقيق هذا الغرض.
في البدء لابد من شرح خارطة تقسيم وتوزيع الموارد والنفوذ في العالم والتي تتكون من هيكل هرمي ذو ثلاثة مستويات: لاعبين دوليين كبار مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الاوروبي، ثم لاعبين اقليميين في كل منطقة يلعبون لصالح أحد اللاعبين الدوليين، ثم لاعبين محليين يلعبون لصالح واحد من اللاعبين الإقليميين.
من المهم هنا الاشارة الي أن اللاعبين الدوليين قد يكون لديهم أكثر من لاعب إقليمي واحد كما هو الحال في منطقتنا حيث نجد أن اللاعبين الدوليين الرئيسيين في المنطقة هما الولايات المتحدة وروسيا، الولايات المتحدة لديها كل من المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة وقطر ومصر، بينما روسيا لديها كل من إيران والجزائر.
من المهم الاشارة الي أن العلاقة بين اللاعبين الإقليميين هي في الغالب الاعم علاقة تنافسية حيث يسعي كل لاعب الي الاستيلاء علي حصة أمبر من النفوذ والموارد والاسواق. كما أن اللاعبين الدوليين عادة لا يكونون معنيين بالصراعات التنافسية بين اللاعبين الاقليميين المنتمين الي نفس الفريق طالما أنه حصتهم من الموارد سوف تظل كما هي ومن كتلة اللاعبين الإقليميين العاملين لصالحهم، ولكنهم يقلقون بشدة إن تم انتزاع حصة من تلك الموارد بواسطة لاعب إقليمي منتمي الي فريق دولي أخر.
نفس الوصف ينطبق على العلاقة بين اللاعبين الٌإقليميين مع اللاعبين المحليين. كما تجدر الاشارة هنا الي أن هناك لاعبين إقليميين يسعون للانتقال الي خانة اللاعب الدولي كما في حالة تركيا في منطقتنا والهند والبرازيل في مناطق أخري خارج إقليمنا.
تنزيلاً لهذه الفكرة على واقعنا السوداني نجد مجموعة من اللاعبين المحليين الذين يعملون لصالح عدد من اللاعبين الإقليميين حيث نجد كل من قحت والدعم السريع والحركات المسلحة كانوا يلعبون لصالح الامارات، ثم نجد الجيش الذي يلعب لصالح السعودية ومصر. أما مجموعات الاسلاميين فقد لعب التقليديون منهم لصالح تركيا، ولعب الحداثيون منهم لصالح قطر كما لعبت مجموعات صغيرة منهم ولأسباب قبلية وجهوية لصالح مصر.
أما مجموعات اليسار وقسم كبير من القوي الثورية فنجد أنها ليست لديها حلفاء إقليميين طبيعيين على المستوي الأيديولوجي في المنطقة، كما انهم ينظر إليهم بالكثير من التشكك وعدم الراحة بواسطة جميع اللاعبين الاقليميين والدوليين. هذا الي جانب أن مواقفهم وشعاراتهم السياسية جميعها إما رافضة للتدخلات الاجنبية أو معادية لمشروع التبعية النيوليبرالية الذي ينتمي اليه جميع اللاعبين.
استكمالا لهذه الفكرة سوف يسعي هذا الجزء من المقال الي الاشارة وتحليل بوادر التحول في المشهد السياسي السوداني بعد عام ونصف من الحرب وهو تحول وأن بدت مؤشراته خافتة الا انها تنذر تغييرات كبيرة تحتاج منا كقوي ثورية الي الانتباه والاستعداد حتى لا نقع في شرك الادراك المتأخر الذي سوف تكون كلفته باهظة كما خبرناها سابقاً.
تتمثل هذه المؤشرات في الاتي:
- المؤشر الأول هو التراجع السريع للفريق البرهان عن تفاهماته مع كل مع روسيا وحالة الركود السريع التي انتابت العلاقات بين السودان وإيران من جهة، والسودان والجزائر والتي يبدو أنها قد تم استخدامها كمحاولة لابتزاز الولايات المتحدة ولاعبها الاقليمي الامارات، حيث أن طبقة كبار الضباط في الجيش ومنذ نهايات فترة حكم البشير كانت تعتبر لاعباً محلياً يلعب لصالح حلفاء الولايات المتحدة الاقليمين في المنطقة سوآءاً الامارات العربية أو مصر أو السعودية.
- المؤشر الثاني هو التحول في السياسية الامريكية تجاه الفريق البرهان وقادة الجيش والتي اصبحت اكثر لينا تجاهه واكثر تشدداً تجاه ميليشيا الدعم السريع علي الرغم من قبول الاخير الجلوس في مفاوضات جنيف ورفض الجيش لها وهو ما يشير الي تغير موازين القوي لصالح لاعبين إقليميين جدد من نفس الفريق الدولي.
- المؤشر الثالث هو تخلي معظم قادة الحركات المسلحة مثل جبريل وناوي وعقار عن اللعب لصالح الامارات العربية المتحدة الي لاعبين اقليميين اخرين مثل مصر وقطر وتركيا.
- المؤشر الرابع هو الدخول القوي لمصر في الفترة الاخيرة حتي اصبحت وسيط الجيش في اتصالاته مع المجتمع الدولي.
- المؤشر الخامس يتمثل في الاختراقات النوعية التي انجزها الجيش علي مسارح العمليات الحربية والتي نعتقد أن لهاتين الدولتين دور فيها.
بالنظر الي هذه المؤشرات مجتمعة نجد أنه ثمة تحول نوعي في موقف اللاعبين الدوليين الكبار في غير صالح ميليشيا الدعم السريع، هذا التحول سوف تكون الخاسر الاكبر فيه على المستوي الاقليمي هي دولة الامارات العربية المتحدة وحلفاؤها المحليين وعلى رأسهم ميليشيا الدعم السريع وقحت/ تقدم.
كذلك نجد ان الدخول القوي لبعض اللاعبين الاقليميين الجدد الذين هم ليسوا على وفاق مع دولة الامارات سوف يجعلها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الخروج نهائياً من المشهد السوداني، أو إدارة عملية اعادة تموضع تقبل فيها بلعب دور أصغر علي المسرح السوداني. وبالطبع سوف يكون انعكاس ذلك كبيراً على حلفاء الامارات بالداخل في المسرح السياسي الداخلي.
إذاً علينا الاستعداد للتعاطي مع مسرح سياسي جديد سوف لن تكون أحزاب قحت هي اللاعب المدني الرئيس فيه، كما سيفضي غالباً الي تصفية ميليشيا الدعم السريع أو تقزيم دورها بصورة كبيرة جداً.
إن قوي الهبوط الناعم حالياً وأعني بها اللاعبين الدوليين والاقليميين هي
حالة إعادة تموضع وتغيير للجلد وسوف ينعكس ذلك حتماً على اللاعبين المحليين وسوف تبرز نسخة جديدة من الهبوط الناعم المحلي سنحاول ابراز ملامحه في المقال القادم بإذن الله.