تأملات في العمل النقابي في السودان (٥\٧)

الأطر النظرية التي نمت في ظلها الحركة النقابية

في مقال سابق تحدثنا عن التحديات المعاصرة التي تواجه الحركة النقابية والتي لخصناها في التغيرات التي حدثت في سوق العمل العالمي والمحلي والزيادة الكبيرة في أنماط العمالة غير الثابتة أو بعقودات مؤقتة مما أدي الي دخول القطاع غير المنظم كلاعب قوي في سوق العمل وبالتالي اتساع الفجوة بين العاملين الدائمين والعاملين المؤقتين وانعكاس ذلك على العمل النقابي.

وحتى يتسنى لنا فهم التحديات المعاصرة التي تواجه العمل النقابي في سياق تطورها التاريخي لابد لنا من تتبع مسار نشأة وتطور علاقات العمل وانعكاس ذلك علي مواقف قوي اليسار واليمين من الحركة النقابية.

من المعروف أن الحركة النقابية قد نشأت كتطور لنظام الطوائف (The guilds system) الذي هو نفسه قد تطور عن نظام العوائل، حيث كانت الحرف يتم امتهانها بواسطة عائلة أو عدد محدد من العوائل تحتكر العمل في حرفة معينة، ومع تطور الزمن واتساع السوق ظهر نظام الطوائف حيث اصبح لدي كل مهنة أو حرفة مجموعة معينة تحتكر الحرفة أو المهنة وتضع لها شروطاً ومواصفات كما تحدد طريقة التدريب والتراتبية المهنية بين المشتغلين بالمهنة أو الحرفة المعينة.

مع تطور الثورة الصناعية حدثت تحولات في طبيعة العمل حيث تطورت من الحرفة المعتمدة على عدد محدود من العاملين داخل موقع العمل الي المصنع الذي يتواجد فيه عدد كبير من العاملين كما حدثت تحولات عميقة في علاقات العمل نفسها حيث تفككت تلك العلاقة التي الي جانب البعد الاقتصادي تتسم ببعد أخلاقي يسم سلطة المخدم على العامل بوصفة المعلم والراعي، واقتصر تلك العلاقة على الجانب الاقتصادي فقط مما استوجب ظهور نموذج النقابات العمالية للدفاع والاعتراف بحقوق العمال غير المهرة والذين أصبحت اعدادهم ترتفع بمعدلات كبيرة. نتيجة لهذا الوضع، صدر قانون للنقابات سنة ١٨٧١ في بريطانيا كما قادت الحركة العمالية في الولايات المتحدة الامريكية معارك قانونية طويلة وشرسة من أجل الاعتراف بها حيث تم استخدام قانون منع التآمر ولزمن طويل لمصادرة حق التنظيم النقابي، كما شهدت الحركة صراعاً حاداً بين تنظيمات العمال المهرة والذين كان يمثلهم الاتحاد الأمريكي للعمل (AFL) وتنظيمات العمال غير المهرة والتي كانت يمثلها مؤتمر المنظمات الصناعية (CIO) واستمر هذا الصراع من سنة ١٩٤١ حتي ١٩٥٥ حيث اندمجت المنظمتان النقابيتان لتشكل واحدة من أكبر الاتحادات العمالية علي مستوي العالم حيث ضمت ما يزيد عن ١٥ مليون عامل.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية اتسع نفوذ النقابات العمالية حتى تمكن بعضها من الوصول للسلطة الامر الذي جعل من النقابات موضوعة رئيسية لدي كثير من المدارس الفكرية بشقيها اليساري واليميني. حيث ركز اليسار على البعد الطبقي وعلاقات العمل، بينما انشغل تيار اليمين بالجوانب المتعلقة بالمنفعة الاقتصادية مثل الأجور وتأمين الوظائف للعاملين. فعلي صعيد اليسار اتخذ كارل ماركس موقفاً مؤيداً ومتفائلا من العمل النقابي حيث كتب في كتابه بؤس الفلسفة إن انقسام المجتمع الي رأسماليون يملكون وسائل الانتاج وعمال يبيعون قوة عملهم مقابل اجر زهيد يعمل علي مضاعفة بؤسهم ويعمل علي اغترابهم عن انتاجهم لكنه في نفس الوقت يزيد من احساسهم بوجودهم فيعملون علي التكتل كحل أمثل لمواجهة رب العمل ويكتشفون أن العمل الجماعي أجدي وانفع وبذلك تتكون النقابات التي يراها ماركس المحرك الأساسي للتغيير الاجتماع شريطة ان تمتلك الوعي السياسي بطبيعة النظام الرأسمالي في ممارستها للعمل النقابي حيث وجه تقداً شديداً لنموذج النقابة الاقتصادية التي لا تري في النقابة دوراً ابعد من الجانب الاقتصادي والخدمة في خدمة عضويتها.

في المقابل يبدو منظر الثورة الروسية فلاديمير لينين أكثر تحفظاً حيث يعتقد أن نجاح النقابات مرتبط بالإطار الأيديولوجي فهو لايري حتمية ثورة النقابات باعتمادها على الجانب الاقتصادي والسياسي فقط ويشدد على وجود طلائع ثورية داخل النقابات تعمل على بث الوعي الطبقي والسياسي. أما روبرت ميتشل صاحب نظرية الاوليغاركية النقابية فهو يري أن النقابات المنشغلة بالقضايا الاقتصادية والخدمية فقط ولا يمتلك عناصرها وعياً سياسياً وطبقياً، وكنتيجة لاتساع قاعدة العمال داخلها سوف تصبح خاضعة لاقلية منتخبة تعمل على الحفاظ على مصالحها دون الالتفات لمصالح العمال التي تتناقض مبدئياً مع مصالح النظام الرأسمالي وبالتالي تتحول الي نقابة صفراء تعمل في خدمة مصالح المخدم.

علي الضفة الأخرى نجد ان المدارس اليمينية قد سعت في البداية الي عدم الاعتراف ومحاربة النشاط النقابي ثم عملت وتحت الضغط الأخلاقي المسيحية والاشتراكية المثالية مثل سان سيمون وتشارلس فوريية و جوزيف برودون والتي نادت بالعدل والمساواة وإعادة توزيع الثروة الي الاعتراف بالنقابات كأحد الاليات التي يمكن ان تلعب دوراً في مواجهة جشع ارباب العامل، حيث يري فرانك تانينبوم (Frank Tannenbaum) وبيرلمان (Selig Perlman) أن النقابات انما نشأت كرد فعل دفاعي لندرة الوظائف والخوف من فقدان الوظيفة بينما يعتقد بياتريس وسيدني ويب (Beatrice Webb & Sidney Webb)  أن ظهور النقابات قد كان نتيجة للفجوة بين العامل ورب العمل الذي فرض شروطه علي العامل ولم يكن امام العامل سوي القبول بشروط رب العمل. ولكن نجد أن جميع المدارس التي تنتمي الي معسكر اليمين قد سعت في نفس الوقت الي قصر دور النقابات على النشاط الخدمي الاقتصادي وافراغه من أي مضمون سياسي مطلبي يرنو بعينيه نحو السلطة أو طبيعة النظام.

في المقال القادم سنسعى الي التطرق الي نشأة وتطور الحركة النقابية في دول العالم الثالث ومن بينها السودان.

 

المراجع
  1. نعيم بوقورة (20212) الحركة النقابية كظاهرة اجتماعية: مقاربة تاريخية سوسيولوجية. مجلة الحقيقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية. جامعة احمد دراية ادرار الجزائر المجلد 11العدد 01 مارس 2012. ص 332- 366.
  2. عبد الباسط محمد حسن (1982) علم الاجتماع الصناعي الطبعة الثالثة. دار الغريب: القاهرة.

 

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *