تأملات في العمل النقابي في السودان (٣\٧)

النقابة الجماهيرية:
هذا المقال محاولة للتصدي لبعض المفاهيم الخاطئة حول العمل النقابي طبيعته، طرائق عمله وأدواته. وتجدر الإشارة هنا الي أن هذه المفاهيم الخاطئة هي منتشرة وسط فئات واسعة من المهتمين بالشأن النقابي يميناً ويساراً.
واحدة من هذه المفاهيم الخاطئة هي النظر الي العمل النقابي كأحد روافد العمل السياسي وهو مفهوم خاطئ ومضر جدا بمسيرة الحركة النقابية فالنقابات أجسام مطلبية تسعي الي نيل حقوق ومكتسبات من مخدم وتسعي من اجل التأثير علي الدولة من أجل تبني سياسات تصب في صالح العاملين.
بهذا التعريف تكون النقابة هي أداة مهمة من أدوات الصراع الطبقي الذي يشكل العمل السياسي أحد تعبيراته. وبالتالي فإن التعامل مع العمل النقابي كأداة سياسية فقط فيه تقزيم لدور النقابات في الصراع الاقتصادي الاجتماعي. الذي هو عملية أعمق وأشمل من مجرد النشاط السياسي.
بناءً على ما سبق فمن الطبيعي أن يتسم العمل النقابي بطبيعة خاصة وأدوات عمل مختلفة عن طبيعة وأدوات العمل السياسي وتلك مسألة معقدة وكثيراً ما تلتبس على البعض. وحتى نتمكن من حلحلة عقد هذه المعضلة فسوف يتناول هذا المقال مفهوم النقابة الجماهيرية المعتمدة على قاعدة جماهيرية عريضة في مقابل مفهوم الجسم المهني ذو العضوية المحدودة والمعتمد على أساليب المناصرة والدعاية على طريقة المنظمات الطوعية على ان نتناول في مقالات لاحقة جوانب أخري كم القضايا والتحديات التي تواجه العمل النقابي في السودان قبل وأثناء الحرب.
الطبيعة الجماهيرية والقاعدية للعمل النقابي:
إن العمل النقابي هو نشاط جماهيري بطبيعته حيث يعتمد نفوذ النقابة وقدرتها على انتزاع حقوق ومكتسبات من المخدم أو الدولة علي حجم عضويتها ومدي التفافهم حول نقابتهم، وهذا الالتفاف والتأييد من شروطه اللازمة حيوية وفعالية الهياكل القاعدية للنقابة وقدرتها على تحقيق الحد الأعلى من التفاف العاملين حولها، أي بمعني أخر رسوخ الطبيعة القاعدية للعمل داخل النقابة.
يتوهم بعض النقابيون في معسكر اليمين أن في مقدورهم تأسيس نقابة فاعلة من دون أن تتمتع بسند قاعدي قوي وذلك بالاعتماد علي نفوذ النقابة داخل جهاز الدولة أو النظام السياسي الحاكم وذلك إما بالاندماج الكامل داخل النظام السياسي كما فعل نقابيو الحركة الإسلامية، أو بالدخول في تحالفات سياسية يتصورون أنها سوف تضمن لهم النفوذ الكافي لإنفاذ برامجهم النقابية كما تفعل بعض الاجسام النقابية والمهنية اليوم داخل تقدم، أو عبر زيادة قدرتها علي التفاوض باستخدام أساليب المناصرة المستعارة من المنظمات الطوعية كما تفعل بعض الاجسام المهنية أيضا والتي تهتم بتكثيف نشاطها الإعلامي علي صفحات التواصل الاجتماعي أكثر من نشاطها علي الأرض وهو ما اطلقنا علية سابقاً الأنجوة.
كذلك وعلى الضفة الأخرى نجد بعض المجموعات صاحبة التفكير اليساري البدائي لا تري دوراً للنقابات غير الدور السياسي المباشر وذلك بتحويل النقابات الي منظمات ثورية تعمل على اسقاط الأنظمة وإحلال البديل الاشتراكي، هذا النمط من التفكير البدائي يجعل العمل النقابي أيضا وسيلة للعمل السياسي المباشر ويتجاهل المحتوي الاجتماعي والطبيعة الطبقية للعمل النقابي فالاشتراكية ليست مجرد نظام سياسي فقط كما يتخيل هؤلاء، بل هي مرحلة تاريخية كاملة ونظام اجتماعي متكامل له ابعاده الاقتصادية والسياسية والثقافية.
أوضح نموذج لهذا النمط من الانحراف في العمل النقابي داخل معسكر اليمين مجموعة النقابات والاجسام والمجموعات المهنية داخل تقدم والتي أطلقت علي نفسها فئة “المهنيين” و “الشخصيات القومية” حتي لا تلزم نفسها بمعايير العمل النقابي المعروفة بل وحصرت قوي العمل فقط في فئة المهنيين متجاهلة بذلك مجموعات عريضة أخري مثل فئات العمال والحرفيين والموظفين ولا أظن أن ذلك مجرد صدفة، كذلك تضمر هذه المجموعات مفارقة للعمل النقابي بشكله التقليدي وذلك بسعيها لإيجاد مرجعيات أخري خارج قواعدها مثل منظمة العمل الدولية واعتمادها علي مجموعة صغيرة من المهنيين ذوي الصوت العالي المعتمدين علي أساليب المناصرة وتمويل المنظمات الدولية في تمويل انشطتهم بالكامل، وبذلك يتم إحلال نموذج الأنجوة بديلاً عن النقابة الجماهيرية ذات القاعدة العريضة.
هنا لا ننسي أن قسم كبير من قادة تقدم ينطلقون من تحليل مفاده أن فترة الديمقراطية الثالثة قد تم تقويضها عبر سلسلة الإضرابات التي قامت بها النقابات الموالية للحزب الشيوعي ضد حكومة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي وهو تحليل يشبه في منطلقات النظرية كثيراً التحليل الحالي الذي يدعي أن حكومة الفترة الانتقالية قد تم تقويضها بواسطة لجان المقاومة الموالية للحزب الشيوعي وهو موقف يميني بالكامل لا ينظر الي النقابات ولجان المقاومة أبعد من كونها مجرد أدوات للصراع السياسي.
في المقابل نجد أن بعض أصحاب التفكير اليساري البدائي يفضلون نفس النموذج غير الجماهيري للعمل النقابي فهم ابتداءً يرفضون المشاركة في أي انتخابات نقابية لا يضمنون الفوز فيها ويرفضون أي نشاط نقابي لا يخدم أهدافهم السياسية المباشرة ولا تكون لهم فيه اليد العليا، بل وينظرون الي هذا النشاط كنشاط معادي والمشاركة فيه درجة من درجات الردة.
وتجدهم ايضاً مثلهم مثل قوي اليمين يميلون الي تكوين الاجسام المهنية محدودة العضوية والتي يجمع بينها الولاء لمواقفهم السياسية أكثر من القضايا النقابية المطلبية في مقابل النقابة ذات العضوية الكبيرة والتي تعبر عن تباينات المواقف والرؤى بين عضويتها والتي توحدها القضايا المطلبية والمهنية التي هي واحدة من أقوي التعبيرات المباشرة للصراع الطبقي.
أما المجموعة الأخطر على العامل النقابي اليوم فهي تلك المجموعة التي تدعي تلميحاً أو تصريحاً انتمائها الي معسكر اليسار وهي في حالة قوي ومعلن مع قوي اليمين يتجلى في استماتتهم معاً على ترسيخ نموذج الأنجوة على العمل النقابي وفرض مرجعيات بديلة تفارق ارث وتقاليد الحركة النقابية السودانية وتلحقها بأفكار ومفاهيم نقابية نيوليبرالية تحت غطاء الحداثة ومواكبة التطور والهدف من ذلك هو الاجهاز على نموذج النقابة الجماهيرية ذات العضوية الواسعة والقاعدة العريضة.
في الختام ينبغي التشديد على أن لا بديل للنقابة الجماهيرية المنتخبة ذات القاعدة العريضة فهي الجسم الأمثل والاصلح للدفاع عن مصالح العاملين وكلما زادت عضوية النقابة واتسعت قاعدتها ازداد تركيزها على القضايا النقابية والمطلبية للعاملين، حيث ان اتساع العضوية دائما ما يعصم النقابات من الانحراف عن المسار النقابي الصحيح.