تأملات في العمل النقابي في السودان (٢\٧)
حول أطروحة نهاية الطبقة العاملة
هذا المقال سوف يكرس لعرض وشرح الدور المحوري الذي تلعبه وينبغي أن تلعبه النقابات في ظل تحديات العصر وعلي راسها هيمنة النظام النيوليبرالي على مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال العقود الثلاث الماضية. من اللافت انه وعلي الرغم من حدة هذه الهيمنة وهجمتها الشرسة علي حقوق العاملين إلا ان عدد الوظائف علي مستوي العالم قد ارتفع من ٢.٢٣ مليار وظيفة سنة ١٩٩١م الي ٣.٥ مليار وظيفة سنة ٢٠٠٤م (Einar H. Dyvik 2024)، ولكن قابل هذه الزيادة تدهور كبير في في شروط العمل أو ما يعرف بمعايير العمل اللائق وزيادة كبيرة في الهوة بين مستوي الأجور واحتياجات الحياة اليومية في ظل نظام الخصخصة وتخلي الدولة في مناطق كثيرة من العالم وعلي راسها دول الجنوب الفقيرة عن توفير الخدمات الأساسية لمواطنها.
في المقابل نجد أن منظري النظام النيو ليبرالي يستميتون في الادعاء بأن الطبقة العاملة قد انتهي دورها التاريخي وإنها تتجه نحو الزوال مستعينين في ذلك بآلة إعلامية هي الأقوى والاشرس علي الاطلاق عبر التاريخ البشري ولا يخفي علينا الهدف الأيديولوجي وراء هذه الدعاية والذي يسعي لتصفية دور النقابات تحديداً عبر القول بان الطبقة العاملة نفسها انما هي طبقة آيلة للزوال.
يعتمد منظرو النظام النيو ليبرالي في ادعاءاتهم تلك على ارقام واحصاءات مستقاة بشكل رئيسي من أوضاع الطبقة العاملة في الغرب، حيث نجد فعلاً ان اعداد الطبقة العاملة عبر التعريف التقليدي لها قد انخفضت خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا ان هذه الأرقام تغفل حقيقتين مهمتين على المستويين المحلي والعالمي. فعلي المستوي المحلي نجد ان أعداد الطبقة العاملة في أوروبا وامريكا قد تمت إزاحة قسم كبير منها من قطاع العمل المنظم الي قطاع العمل غير المنظم، خصوصاً في قطاع الخدمات والاعمال الصغيرة، حيث نجد ان معظم عمال المصانع السابقين قد ولجو القطاع الحرفي الصغير أو انخرطوا كعمال غير نظاميين في قطاع الخدمات والاعمال الصغيرة كعمال في محلات البقالة والمطاعم وغيرها.
أما علي المستوي العالمي فنجد ان الطبقة العاملة بتعريفها التقليدي قد تمت إزاحتها بصورة حادة نحو دول الجنوب أو ما يعرف بدول العالم الثالث حيث نجد أن اربع دول من دول الجنوب الفقير موجودة بين الدول الخمس الأكبر من حيث حجم العمال واحتياطي الوظائف في العالم والتي نذكرها بالترتيب (الصين- الهند- الولايات المتحدة الامريكية- إندونيسيا – البرازيل)، كما نجد ان تعداد الطبقة العاملة في الولايات المتحدة الامريكية هو مئة ثمانية وستون مليون ومائة تسعون عامل في مقابل في مقابل سبعمائة واحد وثمانين مليون في الصين وخمسمئة أربعة وأربعون مليونا في الهند، كما نجد أن حجم العمالة في دول الجنوب الأربع (الصين والهند والبرازيل واندونيسيا) يزيد عن المليار ونصف عامل. كذلك نجد ان ثلاثة دول فقط (الولايات المتحدة الامريكية- روسيا- اليابان) من بين ما يعرف بالدول الصناعية الثمانية العظام موجودة بين أكبر عشرة دول من حيث عدد العمال في العالم (The World Factbook 2022).
علي المهتمين بالشأن النقابي في بلادنا بصورة خاصة على مستوي دول الجنوب الفقيرة بصفة عامة أن مؤشر التأثير والنفوذ النقابي يتجه وبمعدلات مطردة نحو الجنوب وهو مما يثير بشدة ذعر القوي النيو ليبرالية المهيمنة علي عالم اليوم وهذا ما يفسر الهجمة الشرسة علي العمل النقابي في دولنا. فعلي المستوي الوطني نجد أن السودان يحتل المركز رقم 46 علي مستوي العالم من حيث احتياطي العمالة وهذا يفسر اهتمام دولة مثل الولايات المتحدة الامريكية معروف عنها قدرتها علي التخطيط الاستراتيجي طويل المدي بالحركة النقابية السودانية، وسعيها عبر منظمات امريكية الي تشكيل الحركة النقابية في السودان عبر ستار التدريب او المساعدات الفنية والمالية، وهو موقف مفهوم بالنسبة الينا.
ما لا أستطيع فهمه حقيقة هو احتفاء بعض المجموعات النقابية السودانية بمفاهيم نقابية مستقاة من النموذج النيو ليبرالي للنقابات واتعجب واتساءل … ما الذي ينتظره هؤلاء من نموذج قد انتهي به المطاف الي تصفية اعداد الطبقة العاملة وانحسار نفوذ الحركة النقابية داخل دولها؟!
يقول المثل السوداني إن الاصبع لا يغطي الوجه، ومن يعتقد أنه في مقدوره تصفية الطبقة العاملة ونفوذ تنظيماتها النقابية في المنظور القريب فذلك اعتقاد تكذبه الأرقام، كما أن الأوضاع الإنسانية البائسة التي يعانيها ما يزيد عن المليارين من العمال في دول العامل الثالث قد أعاد تأكيد استنتاجات منظر الاشتراكية العلمية الأكبر كارل ماركس والذي ذكر في كتابة بؤس الفلسفة: إن انقسام المجتمع الي رأسماليين يملكون وسائل الإنتاج وعمال يبيعون قوة عملهم مقابل اجر زهيد يعمل علي مضاعفة بؤس العمال، وهذا الوضع يعمل علي اغتراب العمال عن انتاجهم ولكنه يزيد من احساسهم بوجودهم فيعملون علي التكتل كحل امثل لمواجهة رب العمل.
المراجع:
The World Factbook (2022) Counrty Copmarisons- Labour Force. Available at:
https//www.cia.gov/the-world-factbook/field/labor-force/country-comparison/
Einar H. Dyvik (2024) Number of employees worldwide 1991-2024. Statita Available at:
https://www.statista.com/.../global-employment-figures/....