حوار هادئ حول مفهوم المقاومة الشعبية (١\٧)

انتظرت حتى تهدأ الزوبعة الناجمة عن لقاء مجموعة غاضبون بقائد الثورة المضادة الفريق عبد الفتاح البرهان لإدارة حوار هادئ حول مفهوم المقاومة الشعبية الذي تم اختطافه مؤخراً بواسطة قوي الثورة المضادة، وسيكون مدخلي الي ذلك مسألتين مطروحتين بشدة علي الساحتين النظرية والسياسية اليوم.

المسألة الأولي متعلقة بالتحليل والموقف الصحيح لطبيعة الحرب الدائرة في السودان اليوم والمسألة الثانية هي الموقف من مفهوم صغار الضباط والجنود.

سيستشهد هذا المقال بوثيقة وحيدة هي البيان التأسيسي لـجمعية الشغيلة الأممية الذي صاغه كارل ماركس سنة 1894م لشرح التحليل والموقف من الحرب مع الإشارة الي اختلاف الظرف التاريخي والسياق.

أولاً: ما هو التحليل والموقف الصحيح من حرب الخامس عشر من ابريل؟

يؤكد هذا المقال على ان حرب الخامس عشر من ابريل هي حرب امبريالية بامتياز، هي حرب تصب بالكامل في اتجاه مصالح دولية وإقليمية على ارض السودان، وتتولي المحاور الدولية والإقليمية التخطيط ليتم التمويل بأيدي عملاء سودانيون ارتضوا لأنفسهم التبعية وربط مصائرهم الشخصية بهذه المحاور. هذا هو العنوان العريض لهذه الحرب وبالطبع داخل هذا العنوان الكثير من التفاصيل.

إن التاريخ السياسي البشري يذخر بمثل هذا النوع من الحروب وقد صاغ ماركس الموقف الصحيح منها في البيان التأسيسي للأممية الاولي والذي نص علي:

في البدء لابد لنا من فهم طبيعة الحروب التي كانت تخوضها البرجوازيات في أوروبا مع نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين والتي كان يتم فيها الزج بالعمال والفلاحين وبقية الفئات الفقيرة قسراً في الجيش للانخراط في تلك الحروب. في الحرب قسراً ودون ارادتهم، وهذه كانت بدايات تشكل الوعي بالطبيعة العدوانية للنظام الرأسمالي الذي كان يجر العمال والفلاحين قسرا من مصانعهم ومزارعهم ويلقي بهم في اتون الحرب

واستمر البيان في ذات التحليل بقوله:

نحن الذين نريد السلام و العمل و الحرية، نحن نحتج بصوت عال على نداءات تدعو للحرب يصدرها هؤلاء الذين يستطيعون أن يعفوا أنفسهم من ((ضريبة الدم)) و الذين تكون الكارثة العامة بالنسبة لهم مصدرا لمضاربة جديدة.

يتطرق هذا البيان الي ذلك النوع من الحروب التي تخاض لصالح مجموعات مسيطرة تسعي لزيادة حصتها أو تحقيق مضاربات ومكاسب اقتصادية جديدة وهي حالة تشبه الي حد كبير حرب السودان فهي حرب يخوضها طرفان وطنيان لتحقيق مصالح غير وطنية تعمل لصالح قوي دولية وإقليمية ليس لدي الفقراء والمسحوقين فيها ناقة ولا جمل، بل أن الفقراء والمسحوقين هم من يدفعون ضريبة الدم والدموع دون أن يجنوا من ورائها شيئاً. وبالتالي فإن هذا النوع من الحروب تتساوي فيه جميع الأطراف في الجرم.

يعتقد بعض أصحاب التفكير الثوري البدائي ان التناقض التناحري في هذه الحرب هو بين الجيش و الدعم السريع باعتبار أن الدعم السريع هو ميلشيا، بينما التناقض التناحري الحقيقي انما هو بين قوي الهيمنة الدولية والإقليمية وعملاؤها المحليين من جانب، وقوي الثورة الحية من ناحية اخري وان التناقض بين الجيش والدعم السريع ليس الا تناقض ثانوي حول اقتسام عمولة نهب موارد البلاد، ولا يوجد هناك مبرر للوقوف مع طرف فيها الا عبر مدخل جهوي أو عرقي أو ديني أو غيرها من أدوات تغبيش وعي البسطاء.

هنا يقول البيان قائلاً:

مرة أخرى، و بحجة التوازن الأوروبي و الشرف القومي، يتعرض السلام العام للخطر بسبب الطموح السياسي. أيها العمال الفرنسيون و الألمان و الإسبان! لنوحد أصواتنا في صرخة مشتركة واحدة استنكارا للحرب!.. فالحرب من أجل التفوّق أو الحرب لمصلحة أسرة مالكة لا يمكن أن تكون، في نظر العمال، إلا جنونا مجرما. ونحن الذين نريد السلام والعمل والحرية.

ذلك هو جوهر التحليل الثوري الصحيح من هذه الحرب، وأي موقف ثوري ناضج ينبغي ان ينطلق من هذا التحليل.

ثانياً: ما هو الموقف الصحيح من مفهوم صغار الضباط والجنود؟

يحاول بعض الثوريين البسطاء تسويق مسألة ان صغار الضباط والجنود هم عبارة عن احتياطي طبيعي لقوي الثورة هكذا ضرب لازب قافزين فوق الشروط التاريخية والعوامل الموضوعية اللازم توفرها لتحقق هذا الشرط.

هنا سنتناول بالشرح والتدقيق مفهوم صغار الضباط والجنود هذا المفهوم الذي بدأ البعض في الآونة الأخيرة استخدامه لتبرير بعض المغامرات غير الناضجة لمجموعات ثورية لا تخلو مواقفها من بدائية في فكرها الثوري.

وحتى لا يكون هذا المفهوم بمثابة قميص عثمان الذي اتي بالحكم الاموي العضوض، فلابد لنا من فهم الشروط الموضوعية اللازم توفرها لانتقال صغار الضباط والجنود الي مواقع الثورة، فهذه الفئات لا تنتقل تلقائياً الي مربع الثورة لمجرد انهم صغار ضباط وجنود هذا تبسيط ثوري مخل، ففي هذه الحالة يشترط توفر فضاء أيديولوجي مهيمن وحركة جماهيرية نشطة تعمل علي بث الوعي الطبقي والضغط علي أولئك الجنود والضباط، ومالم يتحقق هذا الشرط فسوف يستمر صغار الضباط والجنود أداة للقمع الطبقي وخدمة مصالح القوي المهيمنة.

وهنا سوف نستشهد بواقعتين معاصرتين لشرح المسألة، الأولي حينما حاصر الثوار مباني القيادة العامة وظهرت واشتد ضغط الجماهير علي قيادة الجيش وهيمنت أيديولوجيا الثورة علي الفضاء العام ساعتها انحازت فئات واسعة من صغار الضباط والجنود لمعسكر الثورة، ولكن وبعد اقل من عامين حينما قام قائد الثورة المضادة الفريق عبدالفتاح البرهان بانقلابه المشئوم انحازت نفس هذه الفئة لصالح الثورة المضادة ولم تحرك ساكن وذلك بسبب تفشي روح الهزيمة وهيمنة أيديولوجيا الثورة المضادة بعد الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها حكومة الفترة الانتقالية.

تلك هي شروط المعادلة اللازم توفرها لتحقيق هذا المفهوم

إذاً ما العمل؟

للمتطلعين للدفاع عن حرمات الشعب من الانتهاكات نقول لهم أن ذلك لا يتم بالانحياز لاحد أطراف الحرب، بل عليهم البدء في بناء بؤر المقاومة من طلائع القوي الثورية ومعاشيو القوات النظامية داخل المجتمعات المحلية حيث تتوفر شروط الثورة وليس داخل ثكنات القوات المسلحة حيث تتوفر شروط الثورة المضادة.

بعد ذلك تعمل هذه البؤر على اجتذاب العناصر المتقدمة من فئات صغار الضباط والجنود لهذه الفصائل والتي تقوم بدعوة رفاقهم في السلاح للتمرد على قياداتهم والانحياز لمعسكر الثورة، وهنا اشير الي مسألة مهمة هي أن هذه الدعوات ينبغي ان تشمل الجميع بما في ذلك عناصر الدعم السريع والحركات المسلحة فمفهوم صغار الضباط والجنود مفهوم يشمل حتى هؤلاء.

هكذا يتم إنزال هذا المفهوم على الأرض وتتم هزيمة المخططات الامبريالية في البلاد. وكل ذلك يبدأ ببناء الحواضن الاجتماعية ومنصات الوعي أولاً والبعد عن الاستعجال وحرق المراحل.

ختاماً نقول انه لا مناص من العمل المدني الجماهيري كمدخل للدفع بمسيرة العمل الثوري للأمام وفي أي وجهة كانت – حتى وإن كان في إتجاره العمل المسلح أو الثورة الشعبية السلمية – وكل من يستعجل ويسعي الي حرق المراحل سوف يسقط في بيت عنكبوت الثورة المضادة تماماً كما حدث مع مجموعة غاضبون الذين سوف تمتص الثورة المضادة رحيق الحياة فيهم حتي اخر قطرة.

إن الموقف من  غاضبون والمجموعات التي تحالفت مع القوات المسلحة تحت دعاوي الانحياز لصغار الضباط والجنود والذي كنا قد تنبأنا به في مقال سابق قبل أشهر مضت في حاجة الي التدارك العاجل من قبل هذه المجموعات داخلياً ومن قبل القوي الثورية المتحالفة معها وعلي راسها لجان المقاومة. ذلك حتى لا يستع الفتق علي الراتق، أقول قولي هذا وإني أري شجراً يسير وإني لكم ناصح أمين فمسيرة الثورة السودانية لم تبدأ بالأمس بل هي مسيرة ممتدة لعشرات السنين ولدينا في متعطفاتها التاريخية عِبرة، فقبل نيف وخمسون عاماً وبالتحديد سنة 1971م، قد تمت تصفية قسم كبير من القوي الثورية علي ايدي حلفاء الامس الذين تحالفوا مع السلطة تحت نفس الدعاوي الانحياز لصغار الضباط والجنود ودعاوي أخري مشابهة وتولي التبرير لذلك مجموعات من المثقفين والثوريين المستعجلين.

ألا هل بلغت ؟…. اللهم فاشهد

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *