في نقد طرائق التفكير الثوري البدائي

حينما ظهر الانسان على وجه الارض وجد ان يومه منقسم الي ليل ونهار وأن عامه منقسم الي صيف وشتاء والي جفاف ومطر وحينما نظر الي مجتمعه وجده منقسم الي رجال ونساء وحينما نظر الي نفسه وجد ان لديه قدمين ويدين وعينين منقسمه الي يمني ويسري.

تلك الثنائية كان لها تأثير كبير في تشكيل وعيه المستقبلي فانقسم تفكيره بين خير وشر، عطاءً ومنع، جدب ورخاء، غني وفقر. وقد ساد هذا النمط من التفكير العالم لسنوات طويلة ولم يتمكن الانسان من الخروج من تلك الثنائية إلا مع بدايات عصر التنوير وحتى نهايات عصر الحداثة مع ظهور فلاسفة ومفكرين أمثال جيرمي بينثام وديفيد هيوم وميشيل فوكو وجاك دريدا ولوي التوسير وجورج لوكاش.

مثلنا مثل بقية شعوب العالم تأثر السودانيون بهذا النمط من التفكير البدائي والذي استمر معنا حتي اليوم نتيجة لتأثرنا بفكر الاخوان المسلمين الذي ساد البلاد لعقود وهو نمط من التفكير الديني يعتمد نفس الثنائية، الايمان والكفر، الخير والشر، الحق والباطل … الخ.

وهنا لابد من الرجوع الي افكار انطونيو قرامشي حول نظرية الهيمنة والتي تطرق فيها الي ان تحالف الطبقات الحاكمة لا تحكم بالقوة فقط بل بالأفكار ايضاً، وأن الهيمنة هي عبارة عن قيادة سياسيّة قائمة على القبول (consent) بالحكم السائد، ويتم ضماَن استمرارية هذا القبول من خلال نشر أفكار الطبقة الحاكمة وتعميمها (راجع بيتس قرامشي ونظرية الهيمنة ،1975)1. فأفكار الطبقة الحاكمة هنا هي شيء يتعدى مشروعها السياسي المباشر الي اساليب من التفكير والطرائق التي ننظر بها الي الاشياء وهنا مكمن الخطر.

من السهل الوقوف في وجه المشروع السياسي للحركة الاسلامية، ولكن الانتباه الي اساليب وطرائق التفكير التي بثتها وسط من عاشوا في ظل الهيمنة الفكرية لحركة الاخوان المسلمين فذلك تحدي كبير، يحتاج الي الانتباه لهذه المشكلة والي نقد الذات بالموازاة مع نقد الاخر وتحتاج الي الصدق مع النفس وقوة الذهن.

أظهرت تجربة الحرب الاخيرة بوضوح أزمة ثنائية التفكير خصوصاً وسط الفصائل الثورية، حيث سقطت مجموعات كبيرة منهم في فخ ثنائية الاختيار بين الجيش وميليشيا الدعم السريع وكأنما قدر الحركة الثورية السودانية هو الاختيار بين واحد من الفصيلين في تجلي لمقولة الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات ومن اتقى الشبهات فقد اتقى الحرام، فظهر ذلك الشعار الساذج المنادي بان لا حياد في هذه المعركة وكأنما اعتزال حرب المصالح الامبريالية في السودان واختيار طريق ثالث هو حياد من قضايا الثورة واعتزال لها.

إن التفكير الديني لايري أكثر من طريقين وكل من يفكر خارج الصندوق أو يتخذ لنفسه طريقاً ثالثاُ هو من المؤكد انسان مشبوه أو عميل أو مندس، انظر الي قوة فكرة الطابور الخامس وسط الاسلامين واتساع دائرة المتهمين بالعمالة حتى داخل صفوف الاسلاميين أنفسهم.

كذلك نجد أن من اظهر تجليات البدائية في الفكر الثوري تتمثل في الموقف من الخصم السياسي والتي غالباً ما تتخذ لدي اصحاب الفكر الثوري البدائي مظهراً ميتافيزيقيا يتطابق مع فكرة الشيطان، فالشيطان هو خصم دائم وهو علي باطل علي طول الخط ومن المستحيل أن يتخذ موقفاً صائباً وكذلك نجد الموقف من خصومنا السياسيين لدي اصحاب الفكر الثوري البدائي الذين ينظرون الي الخصم كشيطان ذو ذيل طويل وباطل مطلق ومصدر لكل الشرور في العالم ويعجزون عن رؤية اي ايجابية أو موضوعية في مواقف الخصوم وينظرون الي التفكير خارج الصندوق أو السعي للنظر الي الامور بصورة مختلفة باعتبارها محاولة للزندقة أو التجديف تصدر من أناس مشكوك في نواياهم وهذا موقف مجافي للعلم والموضوعية في التفكير.

خطورة هذا النوع من التفكير أنه يجعل صاحبه عاجزا عن التحليل الموضوعي للمواقف والاحداث ويجنح بصاحبه نحو التحليل الرغائبي والانعزالية.

كذلك نجد أن هذا النمط من التفكير الثوري البدائي يفتح الباب على واسعاً لاختراق الصف الثوري بواسطة الانتهازيين والغوغاء الذين يعملون علي تحويل الفكر الثوري الي حالة من التسطيح والصراخ العالي وهو عين ما يسعي اليه اعداء الثورة السودانية والفكر الثوري.

إن الفكر الثوري هو فكر علمي عقلاني يختبر الاحداث بموضوعية مستوعباً أن القضية الواحدة تحتمل عشرات الآراء والاطروحات وليس اثنين فقط، وأن اياً من هذه الاطروحات إنما تحمل في جوفها عناصر الخطأ والصواب في أن واحد، وأن الموقف الموضوعي من الاطروحة انما هو محصلة تحليل الايجابيات والسلبيات فيها، فليست ثمة اطروحة خطأ بالمطلق كما لا توجد اطروحة صحيحة بالمطلق.

المراجع: [1]

Thomas R. Bates (1975) ‘Gramsci and the Theory of Hegemony’ Journal of the History of Ideas. Vol. 36, No. 2 (Apr. - Jun., 1975), pp. 351-366 (16 pages). Published by: University of Pennsylvania Press

شارك بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *