(NGO-ization) هل تسير السياسة السودانية نحو الانجوة؟
مصطلح الانجوة (NGO-ization) هو مصطلح منحوت من المصطلح الانجليزي (NGOs) وهي المنظمات غير الحكومية، وهو مصطلح أستخدم لاول مرة في منتصف التسعينات بواسطة سابين لانق في نقدها للحركة النسوية العالمية، ويقصد به تبني الحركات الاجتماعية للطابع المؤسسي والبيروقراطي للمنظمات غير الحكومية في تكوينها وطريقة عملها.
المتابع للساحة السياسية السودانية خلال العقدين الاخيرين يلحظ وبسهولة التأثير الكبير للمنظمات الطوعية الاجنبية والمحلية علي مسار السياسة السودانية حيث لعبت منظمات اجنبية عديدة دوراً كبيراً في تسهيل وتمويل اللقاءات والاجتماعات بين القوي السياسية منذ العام 2015م وحتي اليوم، كما لعبت منظمات وطنية عديدة دوراً في الترتيب والتنسيق لمثل هذه الفعاليات وظهر أثر ذلك جلياً في طريقة عمل أحزابنا السياسية اليوم.
اللافت أن هذا النمط من العمل السياسي قد تطور الي درجة ان مجموعات كبيرة من القيادات السياسية المعروفة قد تركت ساحة العمل السياسي المباشر وتحولوا الي ناشطين في مجال المنظمات الطوعية، بل وكونوا منظمات طوعية أصبحت أكثر نفوذاً من الاحزاب السياسية نفسها خصوصاً خلال فترة حكم رئيس الوزراء الاسبق عبد الله حمدوك وحتى يومنا هذا.
حتى لا نكون كما الغوغاء الذين يملؤون الاسافير بالشتائم والزعيق يتوجب علينا تناول هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل العلمي للتعرف على جذورها النظرية ومالاتها السياسية وكيفية التصدي لها وهذا ما سيعمل هذا المقال على معالجته.
تحدثنا في مقالات سابقة عن نظرية المجتمع المفتوح لـكارل بوبر والتي نشرها في كتابه (المجتمع المفتوح) وكيف انها نظرية قد تحولت الي ايديولوجيا مهيمنة على الغرب اليوم، وهي ايديولوجيا معادية لاي نظرية أو مشروع جمعي يجمع أكبر عدد من الناس.
يقول كارل بوبر في كتابه: (اصحاب العقول الساذجة يعتقدون أن بإمكانهم أن يفهموا العالم إن هم رددوا عبارات طقوسية ذات مظاهر علمية غامضة) ويمضي في كتابه ليدعو الي مجتمع مفتوح يكافح اعضاؤه من أجل الصعود الاجتماعي واحتلال امكنة اشخاص اخرين، وبالتالي فإننا لسنا في حاجة الي اتفاق أو وحدة مصير بين أكبر عدد من الناس فتطور المجتمعات ينبني علي صراع الفرد في مواجهة الجميع فالمنافسة علي المكانة هي اساس الحركة والتطور.
هنا أود ان اشير الي مقولة سياسي مرموق قبل سنوات والتي اشار فيها الي عدم وجود ما يعرف بالجماهير، أعقب ذلك ظهور طبقة سياسية جديدة في السودان هدفها التنافس على تقلد مواقع سياسية مرموقة دون أن تتمتع بسند شعبي يؤهلها لتلك المناصب …تلك هي نظرية المجتمع المفتوح بالضبط…. العمل من أجل احتلال أمكنة اجتماعية دون الحاجة الي سند شعبي، والهدف هو تحويل النشاط السياسي الي نوع من النشاط غير الجماهيري الذي يقوده قلة من السياسيين الأذكياء علي حسب معايير الغرب وبتمويل غربي كبير لتنفيذ اجندة ذكية حسب وجهة نظر الغرب ايضاَ.
هذا النموذج من السياسة هو في حقيقة الأمر معادي للأحزاب السياسية ويعمل على إفراغها من مضمونها كمنظمات جماهيرية مثلها مثل النقابات ولجان المقاومة، وبالتالي فمن الطبيعي أن تنتقدها بقية المنظمات الجماهيرية متي ما رأوا منها مفارقة لخط العمل الجماهيري كما في حالة موقف لجان المقاومة من الاحزاب.
هنا لابد من التوقف والتأمل في موقف عدد كبير من لجان المقاومة الرافض للأحزاب، فهذا الموقف يصب تماماً في صالح تصورات المجتمع المفتوح النيوليبرالي الساعي الي الغاء وجود الاحزاب السياسية الجماهيرية وإحلال نسخة غير جماهيرية منها، وكان من الأجدر بهذه المجموعات المعادية للأحزاب بدلاً من المطالبة بإقصائها من المشهد الضغط من أجل عودة هذه الاحزاب لمسار العمل الجماهيري وبالتالي قطع الطريق أمام محاولات انجوة العمل السياسي.
أن الاحزاب السياسية نفسها تعاني من الهجمة الفكرية الشرسة من قوي الهيمنة النيوليبرالية للدفع بها نحو الانجوة، وقد كان الحزب الشيوعي السوداني من أكثر الاحزاب التي عانت من مخطط الانجوة حيث غادر عدد كبير من عضويته بل وقادته أروقة الحزب وهجروا عنت العمل الجماهيري اليومي الدؤوب نحو فردوس الأنجوة. لكن ما قلل من الاثار المميتة لهذه الهجرة هي أن الحزب قد حافظ علي حالة الوضوح الفكري والسياسي داخله كما استماتت عضويته وقيادته في الوفاء لأساليب العمل الجماهيري والتفريق الصارم بين اساليب العمل الجماهيري ومنظماته واساليب العمل غير الجماهيري ومنظماته، وهو في تقديري المتواضع موقف تاريخي يحسب لهذا الحزب في دفاعه عن نقاء وجماهيرية العمل السياسي في السودان.
كذلك تلقي حزب الامة نصيبه من اللطمات، ولكنها كانت أقل مما جري داخل الحزب الشيوعي السوداني. ثم وللسخرية سارعت احزاب بظلفها نحو هذا الفردوس القاتل ودفعت عضويتها دفعاً للانخراط في هذا النوع من النشاط متوهمين انهم بذلك إنما يرفعون من قدرات عضويتهم ويطورون أدوات عملهم ويوفرون لأحزابهم مصادر تمويل أكبر واسهل، وما دروا انهم بذلك قد وقعوا في بيت عنكبوت المجتمع المفتوح القاتل والمعادي لوجود الاحزاب السياسية الجماهيرية أصلاً، فتحولوا الي ظاهرة صوتية كبري بلا جماهير يبسطون نفوذهم في ملعب سياسي فوقي بعيداً عما يجري حقيقة علي الارض، وأعادوا بناء احزابهم علي اساس وحدة تنظيمية تعوزها الوحدة السياسة ولا حتى البرامجية ناهيك عن وجود وحدة الفكر والرؤي.
نحن نسوق نقدنا هذا ليس من أجل مدح الذات أو القدح وتسجيل النقاط ضد الاخرين، ولكنه من باب الحرص علي السياسة السودانية فنحن شئنا أم ابينا نتشارك هذا البلد وفضائه السياسي ولدينا جميعاً مصلحة في نقاء وتعافي البيئة السياسية في السودان وهذه مناشدة للعقلاء من كل الاحزاب السياسية في السودان ودول الاقليم من حولنا لإمعان النظر والفكر في هذا الامر فالسياسة عمل جاد يقتضي الدراسة والتمحيص والاطلاع علي تجارب الاخرين من حولنا.
علينا الرجوع الي ما كتب من نقد في هذا المجال مثل كتابات ارانداتي روي، وجولي هيم، وهيم يعقوبي، وبول ستبس في تجارب الهند وكينيا واسرائيل وكرواتيا فهي تجارب لبلدان يمكننا ان نتعلم منها ونتفادى ما وقعت فيه من أخطاء.
أختم وأقول إن مباراة السياسة الرئيسة هي الانتخابات، والفوز فيها يتطلب وجود جماهير على الارض تصوت لصالح حزبك ومهما بلغ حجم التمويل والدعاية فلابد من وجود جماهير مؤيدة على الارض وبالتالي فإن الاساس هو العمل الجماهيري اليومي علي الارض وسط الناس في قراهم ومختلف مواقعهم.
Wilson Joseph: Paul Stubbs, "Aspects of community development in contemporary Croatia: globalisation, neo-liberalisation and NGO-isation", in Revitalising Communities, October 2006, p.1. Wilson Joseph: Haim Yacobi, "The NGOization of space: dilemmas of social change, planning policy, and the Israeli public sphere", in Environment and Planning D: Society and Space 2007, volume 25, p.745. Wilson Joseph: Julie Hearn, "The 'NGO-isation' of Kenyan society: USAID & the restructuring of health care", in Review of African Political Economy, No: 75:89-100, ROAPE Publications Ltd., 1998, p.90.